ولقد أحسن الَّذي يقول:
إذا شئتَ أن تُدعى كريماً مُكرَّماً ... حليماً ظريفاً ضاحكاً فطناً حُرَّا
إذا ما بدتْ من صاحبٍ لكَ زلَّةٌ ... فكنْ أنتَ مُحتالاً لِزلَّتهِ عُذرا
هذا فيما كان من الجنايات لا يعيد علَى المحبوب في نفسه ضرراً ولا يبيِّن على غير المحبّ أثراً وأمَّا ما كان معيداً على المحبوب عاراً فلا بدَّ من تنبُّهه عليه اضطراراً وفي هذا المعنى لمخيس بن أرطاة التميمي:
عرضتُ نصيحةً منِّي ليَحيى ... فردَّ نصيحتي والنُّصحُ مرُّ
وما بيَ أن أكونَ أعيبُ يحيى ... ويحيى طاهرُ الأخلاقِ برُّ
ولكن قد أتاني أنَّ يحيى ... يقالُ عليهِ في نفعاءَ شرُّ
فقلتُ له تجنَّبْ كلَّ شيءٍ ... يُعابُ عليكَ إنَّ الحرَّ حُرُّ
ولبعض أهل هذا العصر في هذا النحو:
نصحْتُ لكمْ حذاراً أنْ تُعابوا ... فعادَ عليَّ نُصحكمُ وبالا
فإنْ تكُ قد مللتَ فلا تخُنِّي ... وقلْ لي أنْ أُجنِّبكَ الوِصالا
فمنْ يطلبْ لصاحبهِ اختلالاً ... لينقُضَ عهدهُ يُدركْ مقالا
ويمنعُني الوفاءُ لكمْ بعهدي ... وحسنُ الظَّنِّ أنْ أجدَ اختلالا
فتزدادونَ عندي كلَّ وقتٍ ... وأنقصُ عندكمْ حالاً فحالا
سأصبرُ إن أطقتُ الصَّبرَ حتَّى ... تملَّ الهجرَ أوْ تهوى الوِصالا
وقال بشار بن برد:
إذا كنتَ في كلِّ الأمورِ مُعاتباً ... صديقكَ لم تلقَ الَّذي لا تُعاتبُهْ
فعِشْ واحداً أو صلْ صديقكَ إنَّهُ ... مُقارفُ ذنبٍ مرَّةً ومُجانبُهْ
إذا أنتَ لمْ تشربْ مِراراً علَى القذى ... ظمئتَ وأيُّ النَّاس تصفو مشاربُهْ
وقال العرجي:
ذهبَ النَّهارُ وما يبوحُ بما بهِ ... صبٌّ فقلْ إذاً العتابُ عتابُهُ
الله يعلمُ ما تركتُ عتابَهُ ... ألاَّ يكونَ معي لِذاكَ جوابهُ
لكنْ مخافةَ أنْ أُصاحبَ صاحباً ... والصَّرمُ تنمي بالمِرا أسبابهُ
وقال آخر:
ولا خيرَ فيمنْ لا يوطِّنُ نفسهُ ... علَى نائباتِ الدَّهرِ حينَ تنوبُ
وفي الشَّكِّ تفريطٌ وفي الحزمِ قوَّةٌ ... ويُخطئُ في الحدْسِ الفتَى ويُصيبُ
ولستَ بمُستبقٍ صديقاً ولا أخاً ... إذا لمْ تعدَّ الشَّيءَ وهو قريبُ
وقال الحسن بن هب:
دعوتكَ في الجُلَّى وقد ضاقَ مصدري ... عليَّ وروَّاني من السمِّ موردي
فأصمَمْتَ عنِّي منكَ أُذناً سميعةً ... وقد قصدَتْ لي النَّائباتُ بمرصَدِ
فما ضاقَ عنكَ العُذرُ عندي ولا نبا ... بعهدكَ نابٍ من مغيبٍ ومشهدِ
وقِلتُ زماناً قد نهى النَّاس كلَّهُمْ ... عن البِرِّ نهيَ الموعدِ المُتهدِّدِ
وأمَّلتُ أياماً تنوبُ ورجعةً ... من الدَّهر يأتينا بها الله في غَدِ
وقال عمر بن نجا:
منعْتَ عطاءنا ولويْتَ ديْني ... وأعددْتَ الخُصومةَ للخَصيمِ
فما لكَ إن لويتَ الدَّيْنَ عنِّي ... مُعاقبةٌ فيا لكَ من غريمِ
وقال مسلم بن الوليد:
إذا التقينا منعنا النَّومَ أعيُننا ... ولا نُلائمُ نوماً حينَ نفترِقُ
أُقرُّ بالذَّنبِ منِّي لستُ أعرفهُ ... كيْما أقولَ كما قالتْ فنتَّفقُ
وقال آخر:
أإنْ سُمتني ذلاًّ فعفْتُ احتمالَهُ ... غضبْتَ ومنْ يأتِ المذلَّةَ يُعذرِ
فها أنا مُسترْضيكَ لا من جنايةٍ ... عليكَ ولكن من تجنِّيك فاعذُرِ
ولبعض أهل هذا العصر:
زعمْتَ بنفسي أنتَ أنَّك مُغرمٌ ... بِذكري وأنِّي عن وصالكَ مُضربُ
أعدْ نظراً فيما ادَّعيتَ ولا تحِدْ ... لتعلمَ من منَّا الشَّقيُّ المُعذَّبُ
أمَنْ يتجنَّى ثمَّ يُنكرُ ما جنى ... علَى إلفهِ أمْ من يُقرُّ ويُعتبُ
ولو كنتَ تُجزى بالذي تستحقُّهُ ... غضبْتَ ولكنِّي منَ الهجرِ أهربُ
فأغضي علَى جمرِ الغضا خشيةَ القِلى ... ولولا الهوَى ما ضاقَ عنِّي مَهربُ
فحتَّامَ لا أنفكُّ شوقاً إلى الرِّضا ... أُصدِّقُ من صدقي لديهِ مُكذَّبُ
وما ليَ من ذنبٍ إليكَ تعدُّهُ ... عليَّ سوى أن ليسَ لي عنكَ مذهبُ