فنحنُ كأنَّا بالقلوبِ وذِكرها ... إذا ما افترقنا حاضرونَ شهودُ
وقال الراعي:
يُناجيننا والطَّرفُ دونَ حديثنا ... ويقضينَ حاجاتٍ وهُنَّ موازِحُ
فلمَّا تفرَّقنا شجيْنَ بعَبرةٍ ... وزوَّدننا شوقاً وهُنَّ فواضحُ
فويلُ امِّها من خلَّةٍ لوْ تنكَّرتْ ... لأعدائنا أوْ صالحتْ منْ تُصالحُ
وقال آخر:
قفي أخبريني ثمَّ حُكمكِ واجبٌ ... عليَّ إذا خبَّرتِ ما أنا سائلُ
متى أنا ناجٍ يا قتولُ فأوْمأتْ ... بطرفٍ كفى رجعَ الَّذي أنا قائلُ
وقال آخر:
ألا حبَّذا الدَّهْنا وطيبُ تُرابها ... وأرضٌ خلاءٌ يصدعُ اللَّيلَ هامُها
ونصُّ المهاري بالعشيَّاتِ والضُّحى ... إلى نفرٍ وحيُ العُيونِ كلامُها
وأنشدني الفضل بن أبي طاهر:
إشارةُ أفواهٍ وغمزُ حواجبٍ ... وتكسيرُ أجفانٍ وكفٌّ تُسلِّمُ
وألسنُنا معقودةٌ عنْ شَكاتنا ... وأبصارُنا عنها الصَّباباتِ تفهمُ
وقال ابن الوليد عبيد الطائي:
يتبسَّمنَ من وراءِ حواشي الرَّيْ ... طِ عن بردِ أُقحوانِ الثُّغورِ
ويُساقطنَ والرَّقيبُ قريبٌ ... لحظاتٍ يُعلنَّ سرَّ الضَّميرِ
ضعُفَ الدَّهرُ عن هواها وما الدَّهْ ... رُ علَى كلِّ دولةٍ بقديرِ
ليسَ في العاشقينَ أنقصُ حظّاً ... في التَّصابي من واصلٍ مهجورِ
أمَّا هذا الكلام فكلام متغطرس علَى الأيام وقد كان يقال عند الثِّقة بالأيَّام تُحذر الغِيَر.
وقال إبراهيم النظّام:
ونشكو بالعيونِ إذا التقينا ... فنفهمُهُ ويعلمُ ما أردْتُ
أقولُ بمُقلتي أنْ متُّ شوقاً ... فيوحي طرفهُ أنْ قدْ علمْتُ
الباب الثاني عشر
من مُنع من كثير الوصال قنع بقليل النَّوال
قال ذو الرمّة:
ألِمَّا بميٍّ قبلَ أنْ تطرحَ النَّوى ... بنا مطرحاً أوْ قبلَ بينٍ يُزيلُها
ولو لمْ يكنْ إلاَّ معرَّسُ ساعةٍ ... قليلاً فإنِّي نافعٌ لي قليلُها
خليليَّ عُدَّا حاجتي من هواكُما ... ومن ذا يُداوي النَّفسَ إلاَّ خليلُها
وقال أيضاً:
وإنِّي ليُرضيني قليلُ نوالكُمْ ... وإن كنتُ لا أرضى لكمْ بقليلِ
بحُرمةِ ما قد كانَ بيني وبينكمْ ... منَ الوُدِّ ألاَّ عُدتمُ بجميلِ
وقال جميل:
ويقُلنَ إنَّكَ قدْ رضيتَ بباطلٍ ... منها فهلْ لكَ في اعتزالِ الباطلِ
ولَباطلٌ ممَّنْ أحبُّ حديثَهُ ... أشهى إليَّ منَ البغيضِ الباذلِ
ولرُبَّ عارضةٍ علينا وصلَها ... بالجدِّ تخلطُهُ بقولِ الهازلِ
فأجبتُها بالقولِ بعدَ تستُّرٍ ... حُبِّي بُثينةَ عن وصالكِ شاغلي
لو كان في قلبي كقدرِ قُلامةٍ ... فضلٌ وصلْتُكِ أوْ أتتكِ رسائلي
أما هذا فقد دلَّنا بغاية جهده على شدَّة تمكُّنها من قلبه وأخبرنا مع ذلك في شعره أنَّه لو تهيَّأ خلاص شيء من حبِّه من يدها لصرفه إلى غيرها وهذه حال لا تُرضي أهل الوفاء ولا يستعملها أهل الصَّفاء.
وقال آخر:
وإنِّي لأرضى منكِ يا ليلُ بالَّذي ... لوُ اخبرَهُ الواشي لقرَّتْ بلابلُهْ
بلى وبأنْ لا أستطيعَ وبالمُنى ... وبالوعدِ حتَّى يسأمَ الوعدَ آملُهْ
وبالنَّظرةِ العَجلى وبالحولِ تنقضي ... أواخرهُ لا تلتقي وأوائلُهْ
هذه لَعمري قناعة شديدة تدلُّ على أن وراءها ذلَّة وكيدة لأن من يتهيَّأ له من يهواه لا يقنع بأن لا يراه وبأن يعده وعده إلاَّ يطالبه بوفائه ولعمري إنَّ هذه الحال تقرُّ عين المعادي وتسخن عين الموالي إلاَّ أنَّه وإن كان قد بالغ في القناعة فإنه قد التمس التعلُّل بالوعد وبتأميل اللقاء على البعد ومن قنع بترك اللقاء وأقام على حال الوفاء كان أتمَّ حالاً.
كما قال أبو دلف العجلي:
إنِّي وإنْ كنتُ لا أراكَ ولا ... أطمعُ في ذاكَ سائرَ الأبدِ
لَقانعٌ بالسَّلامِ يبلُغني ... أشفي غليلاً به منَ الكمدِ
وأدفعُ الهمَّ بالسُّرورِ إذا ... أيقنتُ أنَّا جارانِ في بلدِ
ولبعض أهل هذا العصر:
أأيَّامَ هذا الدهرِ كمْ تعنفينَ بي ... كأنْ لم ترى قبلي مُعنًّى ولا بعدي