لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً بهِ ... إذْ كانَ تفريقُ الأحبَّة في غدِ
فيقال أنَّه لم يعلم، حتَّى غُنِّي بحضرته فوقف حينئذ على عيبه، قال النابغة أيضاً:
قالتْ بنو عامر خالوا بني أسدٍ ... يا بؤسَ للحربِ ضرَّاراً لأقوامِ
وفي هذه القصيدة يقول:
تبدو كواكبُهُ والشَّمسُ طالعةٌ ... لا النّور نورٌ ولا الإظلامُ إظلامُ
وقال بشر بن أبي حازم:
ألا ظعنتْ لنيَّتها أرامُ ... وكلّ وصال غانيةٍ رِمام
وفي هذه القصيدة يقول:
وكانوا قومنا فبغوا علينا ... فسُقناهم إلى البلدِ الشَّآمي
وإنَّما يتساهل في اختلاف إعراب القوافي إذا كان بعضها مرفوعاً وبعضها مخفوضاً، فأمَّا النصب فلا يصلح معه غيره البتَّة لا في شعر جاهلي ولا غيره، وأمَّا قول جرير:
برئتُ إلى عرينةَ من عَرينِ
فهذا إنَّما بناه على الوقف ولو أعربه لفسد الشعر فاختار أن ينقص من عروضه حرفاً لا يضرّه على أن يتم العروض فيفسد شعره. وقد زعم غير أبي عمرو أن اللحن في القوافي إنَّما هو الإكفاء والإقواء هو نقصان حرف من فاضلة البيت وإنَّما سميت الإقواء لأنه نقص من عروضه قوّة. ويقال: أقوى فلان الحبل إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى، وأمَّا التضمين فهو أن يكون محتاجاً إلى ثانية فلا يفهم معناه حتَّى يسمع ما يليه.
قال بشر بن أبي حازم:
فسائلْ تميماً وأشياعَها ... وسائل هَوازنَ عنَّا إذا ما
لقيناهُمُ كيفَ نَقضيهُمُ ... كما تستخفُّ الجنوبُ الجهَاما
وقال شبيب:
ألم تراني أدركتني حفيظتي ... فدافعتُ عن أنسابِ مُرَّةَ بعدما
تناسى الجديد إن الحياء وشمرت ... فصول الثياب فاختلَين المجذَّما
وفي ذلك يقول الآخر وهو الشعر الجاري على ألسن الخاصة والعامة:
اشدُدْ حيازيمك للموت ... فإنَّ الموت لاقيكا
ولا تجزع من الموت ... إذا حلَّ بناديكا
فزاد في الوزن " اشدد " وهي كلمة فيها أربعة حروف لا تحتاج عروض الشعر إلى واحد منها.
قالت الخنساء:
قذًى بعينك أمْ بالعينِ عُوَّارُ ... أم أوحشت إذْ خلتْ من أهلها الدَّارُ
تبكي لصخرٍ هي العبرَى وقد ثُكلتْ ... ودونهُ من جديد التُّرب أسفارُ
فزادت في البيت الأول الهاء لا تحتاج العروض إليها. الباب الخامس والتسعون
ذكر
من استدل بأشعاره على سوء اختياره
أول ما نذكره إن شاء الله في هذا الباب ما جاء في الشعر من معنى قبيح ولفظ غير عذب ولا فصيح.
قال امرؤ القيس:
إذا لم تكن إبلٌ فمعْزَى ... كأنَّ قرونَ جلَّتها العصيُّ
إذا ما قامَ حالبُها أرَنَّتْ ... كأنَّ الحيَّ بينهُم نَعيُّ
فيملأُ بيتنا أقِطاً وسَمْناً ... وحسبكَ من غنًى شبَعٌ ورِيُّ
وإن هذه لقناعة تدل على ضعة ورقاعة، لأن من اقتصر ورضي من المطالب بما يملأ به بطنه وأضرب عن المكارم صفحاً، فقد دل على نقصان همَّةٍ وإيضاع رتبة، وإن الشاعر ليهجو عدوه بما مدح هذا به نفسه فيكون بالغاً في ذمّه.
قال حسان بن ثابت:
إنِّي رأيتُ من المكارمِ حسبكُمُ ... أن تلبسوا خَزّ الثيابِ وتُشبعوا
فإذا تذوكرت المكارِم مرَّةً ... في مجلسٍ أنتم بهِ فتقنَّعُوا
على أن حسان بن ثابت لم يبلغ به في هجائه ما بلغه امرؤ القيس بنفسه في افتخاره لأن امرأ القيس قنع بالشبع والرِّي وحساناً هجاهم باقتصارهم على خزّ الثياب مع الطعام والشراب.
وقال امرؤ القيس:
فللزَجر أُلهوبٌ وللساق دِرةٌ ... وللسَّوطِ منهُ وقْعُ أخرج مُهذب
وهذا ممَّا يعاب على قائله لأنه يدل على استحثاث شديد وذلك إما لعجز الفارس وإما لنقصان نفس الفرس.
وقال امرؤ القيس:
وأركبُ في الرَّوع خيفانةً ... كسا وجهها سَعفٌ مُنتشرْ
لها ذنَبٌ مثل ذَيْل العَرو ... س تسدُّ به فرجَها من دُبُرْ
وهذا ممَّا يعاب عليه لأن كثرة شعر الناصية معدود في عيوب الخيل فكان السكوت عن ذكره أولى من الافتخار لها به. والذنب لا يسدّ الفرج إلاَّ من دبر وكان هذا حشو في الكلام لا عيب في ذكره.
وبلغني أن رجلاً جاء إلى بعض العلماء فقال له: إنِّي صنعتُ شعراً فأريد عرضه عليك فقال: هاته. فأنشأ يقول: