إن جسمي سلّ من غيرِ مرض ... وفؤادي لجوى الحزن غرض
فقال: أحسنت ثمَّ ماذا؟ قال:
كجراب كانَ فيه جُبن ... دخل الفأر عليه فقرض
فازداد عقله واستضحك من شعره. وأنشدني بعض النحويين قال: أنشدني رجل لنفسه:
وجاريةٍ روميَّةٍ صقلبيّة ... معتّقة ممَّا تعتَّق بابلُ
له أيطلا ظبيٍ وساقا نعامةٍ ... وإرخاءُ سرحان وتقريب تتفل
وقد ذكرنا في هذين الفصلين طرفاً من سوء الاختيار في نظم المعاني والألفاظ في الأشعار، ونحن - إن شاء الله - نذكر الآن في هذا الفصل الثالث طرفاً من الشعر الجيد الصنعة، الملحق بقائله ضرباً من الضعة فمن ذلك قول الفرزدق:
دفعنَ إليَّ لم يطمثن قبلي ... وهنَّ اصحّ من بيض النّعام
فبتنَ علَى اليدين مُصرَّعاتٍ ... وبتُّ أفضُّ أغلاق الختام
وبلغني أن عبد الملك قال له: لآخذنَّك باعترافك بالزنا على نفسك فقال: يا أمير المؤمنين يمنعك من ذلك أنه كتاب الله قال: وما هي؟ قال: والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون ما لا يفعلون. فصفح عنه.
وقال آخر:
وإنِّي لأستحيي من الله أن أَرَى ... أجرّرُ حبلاً ليس فيه بعيرُ
وأن أسأل المرء اللَّئيم بعيرَهُ ... وبعران ربِّي في البلادِ كثيرُ
عوى الذِّئب فاستأنستُ للذئب إذْ عوَى ... وصوَّت إنسانٌ فكدت أطيرُ
يرى اللهُ أنِّي للأنيسِ لشانئ ... وتُبغضهمْ لي مقلةٌ وضميرُ
وقال براقة الهمداني:
مَتَى تجمع القلب الذّكيّ وصارماً ... وأنفاً جميعاً تجتنبك المظالمُ
ومن يكسب المالَ الممنَّع بالقنا ... يعش ماجداً أوْ تخترمه المخارمُ
كأنَّ حَريماً إذْ رجا أن يردَّها ... ويذهبَ مالي يا ابنة القين حالمُ
كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ... مُراغمةً ما دامَ للسَّيف قائمُ
الباب السادس والتسعون
ذكر
تشبيهات ما بقي من الموصوفات
وقد ذكرنا من صفات البحار والفلوات والخمور وآلات الصيد وسائر الدواب فيما قدمناه من الأبواب ما في بعضه بلاغة للمتأدبين، وكفاية للمفتشين، ونحن الآن نذكر - إن شاء الله - ضروباً من التشبيهات لأنواع من الموصوفات التي لو أفردنا كل موصوف منها في باب لما احتمله عدد أبواب الكتاب ولدخلنا في باب التطويل والإكثار إن لم نعجز عنه ما نحفظه من الشعار وسيستبين كل - إن شاء الله - في جران العود وحدها أن لو أفرد كل مشبه فيها بباب لم يصلح بناؤه على ترتيب هذا الكتاب.
قال امرؤ القيس:
ديمةٌ هطلاءُ فيها وَطَفٌ ... طبقُ الأرض تحرَّى وتَدُرْ
وترى الشَّجراءَ من رَيّقها ... كرؤوسٍ قُطِّعتْ فيها الخُمُرْ
ساعةً ثمَّ انتحاها وابلٌ ... ساقطُ الأكتافِ واهٍ مُنهمرْ
وقال عبيد بن الأبرص وتروى لأوس بن حجر:
دانٍ مسفٍّ فويقَ الأرضِ هيدبهُ ... يكادُ يدفعهُ منْ قامَ بالرَّاحِ
فمنْ بنجوتهِ كمنْ بعقوتهِ ... والمستكنُّ كمنْ يمشي بقرواحِ
كأنَّ فيه إذا ما الرعد فجَّرهُ ... دهماً مطافيل قد همَّتْ بأرشاحِ
وقال ذو الرمة:
وهاجرة حرّها واقدٌ ... نصبت لحاجتها حاجبي
تلوذ من الشَّمس أطلاؤها ... لياذ الغريم من الطالبِ
وتسجدُ للشَّمس حرباؤها ... كما يسجد القسّ للرَّاهبِ
وقال آخر:
يوم من الزّمهرير مقرور ... عليه جيبُ الضَّباب مزرورُ
كأنَّما حشو جوِّه إبرٌ ... وروضةٌ حشوها قواريرُ
وشمسُهُ حُرَّةٌ مُخدَّرةٌ ... ليسَ لها من ضيائِهِ نورُ
وقال جران العوْد النميري:
ذكرتُ الصِّبا فانهلَّتْ العينُ تذرفُ ... وراجعكَ الشَّوقُ الذي كنتَ تعرفُ
وكانَ فؤادي قد صحا ثمَّ هاجني ... حمائمُ ورقٌ بالمدينةِ هتَّفُ
لحقنَا وقد كانَ اللُّغامُ كأنَّهُ ... بلحي المهارى والخراطيمِ كرسفُ
وما ألحقتنا العيسُ حتَّى تناضلتْ ... بنا وتلانا الأخرُ المتخلِّفُ
وكانَ الهجانُ الأرحبيُّ كأنهُ ... تراكبهِ جونٌ من الجهدِ أكلفُ
وفي الحيِّ ميلاءُ الخمارِ كأنَّها ... مهاةٌ بهجلٍ من أديمَ تعطَّفُ