وحدثني أبو طالب الدمشقي بإسناد ذكره: أن الفرزدق وجريراً اصطحبا، فعطف جرير ناقته ليبول، وتخلَّف، وحنَّت ناقة الفرزدق فقال:
علام تَلفتين وأنت تحتي ... وخير النَّاس كلهم أمامي
مَتَى تأتي الرصافة تستريحي ... من الأدلاج والدُّبر الدوامي
ثمَّ قال: كأنك يا ابن المراغة قد تسمع بهذين البيتين فقال:
تلفّتُ إنَّها من تحت قَيْن ... برأس الكير والفأس الكهامِ
مَتَى تأتي الرصافة تخز فيها ... كخزيك في المواسم كلَّ عامِ
فلحقهم جرير فقال: الروية يا أبا حَرْزة، ما سمعت ما قال أخوك أبو فراس فأنشده البيتين، فأطرق جرير ثمَّ جاء بالبيتين فقال راويتهما لعنكما الله من شيطانين يعلم كل واحد منكما ما في نفس صاحبه.
وبلغني أن الفرزدق مرَّ وهو شاربٌ بامرأة فتعقل في سراويله، فالتفتت المرأة إلى أخرى فقالت: انظري هذا الشيخ، كيف يتعقل في سراويله، فالتفت إليهما فقال:
وأنت لو باكرت مشمولةً ... صهباءَ مثل الفرس الأشقر
رحت وفي رجليك عُقّالةٌ ... وقد بدا هَنْكِ من المئزر
وبلغني عن بعض أهل الأدب أنَّه قال: كنتُ عند عُمارة، فدخل ابن عتبة فقال: ألا أعجبكم، قلنا: بلى، قال: أنَّه مرَّت بي الساعة امرأة وكانت مُنتقبة، فلما دنت منّي حدرت خمارها لأنظر إليها فرأيتها فاستبشعت خلقتها، فقطبت وجهي فقالت: يا شيخ، ألا يعجبك الملاح، قلت: بلى، ثمَّ قلت:
ويعجبني الملاحُ وكلُّ دلّ ... ولكن لا أراك من الملاحِ
ولكن المليحةَ مثل بدرٍ ... إذا سفرت وأنتِ من القباحِ
فخجلت وانصرفت. وذكر أن الحجاج جلس للمعزين لما مات ابنه وأخوه، وكان بين موتهما جمعة، ووضع بين يديه مرآة، وولَّى النَّاس ظهره، وقعد في مجلسه فكان ينظر إلى ما يصنعون، فدخل الفرزدق، فلما نظر إلى فعل الحجاج ضحك، فلما رأى الحجاج ذلك منه، قال: أتضحك، وقد هلك المحمدان، فأنشأ الفرزدق يقول:
لئن جزع الحجاج ما من مُصيبةٍ ... تكون لمحزون أجلَّ وأوجعا
من المصطفى والمصطفى من خيارهم ... خليله إذْ باتا جميعاً فودّعا
أخاً كان أغنى أعين الأرض كلها ... وأغنى ابنه أهل العراقين أجمعا
جناحا عقاب فارقاه كلاهما ... ولو نزعا من غيره لتضعضعا
سمّيا نبي الله سمّاهما به ... أبٌ لم يكن عند النوائب أخضعا
قال إسحاق الموصلي: كان قتادة بن معرب اليشكري وزياد الأعجم عند المغيرة بن المهلب، فتهاجيا، فأمر المغيرة فوجي عنق قتادة ومُزقت عليه ثيابه:
لعمرك ما الديباج خرّقتَ وحدَه ... ولكنما خرَّقت جلد المُهلَّب
فما شان عرض المرء غيرُ قصيدةٍ ... يُسار بها في كلِّ شرق ومغرب
وإنَّ يدي رهْنٌ لكم بقصيدةٍ ... تكون عليكم كالحريق المُهلَّب
وكان عبد الله بن العباس يمر في بعض الطريق وهو معتمد على بعض ولده فلقيه قوم فلحظوه فأنشأ ابنه يقول:
نظروا إليك بأعين محمرّةٍ ... نظر التيوس إلى شفار الجازرِ
خزر العيون منكسي أبصارهم ... نظر الذليل إلى العزيز القاهرِ
أحياؤهم عارٌ علَى موتاهم ... والميتون فضيحة للغابرِ
وبلغني عن عنان جارية الناطفي أن مولاها ضربها فبكت، وحضرها بعض الشعراء فقال:
بكت عنان فجرى دمعُها ... كلؤلؤ ينسل من خيطه
فقالت من وقتها:
كذاك من يضربها ظالماً ... تجفُّ يُمناه علَى سَوْطه
وحدثني محمد بن الخطاب الكلابي، قال: حدثت عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: قدم علينا أعرابيّ فجالسناه فقال: دعا القتال الكلابي رجل يدعى أبا سفيان إلى وليمة فانتظره من غده فلم يأتِ رسوله فأنشأ القتال يقول:
وإن أبا سفيان ليس بمولمٍ ... بخير فهابي فقرة من حوارك
قال فقلت: أتحب أن أزيدك بيتاً، قال: نعم، فأنشدته:
فبيتك خيرٌ من بيوت كثيرةٍ ... وقدرك خيرٌ من وليمة جارك
فقال الأعرابي: والله لقد أتيت بها بعد ما تعرف الورد، وأنك لمن طراز ما رأيت بالعراق مثله، وما يُلام الملوك على اصطفائهم لك، وإدنائهم إياك، ولو كان الشَّباب يشترى لاشتريته لك بثمن.