وهذا لعمري من أحسن الكلام لفظاً وأجوده معنًى، وأنَّه لسهل المأخذ قريب من الحق وقد ذكرنا في هذا الباب والَّذي قبله من مدح الزمان، وذمه، ومساوئ الإخوان ومحاسنهم، ومن وصف وفائهم وتغيّرهم ما يدل ذوي الخواطر الصحيحة على أن الفريقين جميعاً معاً غير مصيبين للحقيقة إذْ الزَّمان لم يعر من سداد وفساد، ولم يخل من أهل وفاءٍ ورعاية، ومن أهل غدر وخيانة. فمن سامحه الزَّمان بما يهواه ويثبت له الإخوان على الخلق الَّذي يرضاه، مدح زمانه، وحمد إخوانه. ومن جرى عليه الأمر بخلاف ذلك، صرف الأمر فيه إلى فساد الزمان، وغدر الإخوان، على أن منهم من يذم إخوانه، ويعذر زمانه. ألم تسمع الَّذي يقول:
أَرَى حُلَلاً تُصانُ علَى رجالٍ ... وأعراضاً تُهان فلا تُصانُ
يقولون الزَّمان به فسادٌ ... وهم فسدوا وما فسد الزَّمان
قال آخر:
إن الجديدين في طول اختلافهما ... لا يفسدان ولكن يفسد الناسُ
فلا يغرنك أضغانٌ مُزَمَّلةٌ ... قد يضربُ الدّبر الرّامي بإحلاسُ
من يفعل الخير لا يُعدم جوازيَهُ ... لا يذهب العرف بين الله والنَّاس
وأنصف من هؤلاء كلهم الَّذي يقول:
وأعيب العيب بعد الشرك تعرفه ... في كل نفس عماها عن مساويها
عرفانها بعيوب النَّاس تبصرُهُ ... فيهم وليس ترى العيب الَّذي فيها
يا عائب النَّاس قد أصبحت متهماً ... إذْ عِبْتَ منهم أموراً أنت آتيها
كالمُلبسِ النَّاس من عُري وعورته ... للناس باديةٌ ما إن يواريها الباب السادس والثمانون
ذكر
من ارتجل شعراً
لم يقدم له قبل ذلك فكراً
حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني حفص بن الأروع الطائي قال: كنتُ أسيرُ في بلاط طي، فرأيت جاريةً تسوق أعنزاً لها فقلت: يا جارية، أي البلاد أحبُّ إليك، فقالت:
أحبُّ بلاد الله ما بين منعجٍ ... إليَّ وسلمى أن يصوبَ سحابُها
بلادٌ بها حلّ الشَّباب تمائمي ... وأطيبُ أرضٍ مسَّ جلدي ترابها
وأنشدتني أمُّ الجحاف الطائية ببلاط طي:
بلادٌ بها أدركت جدي ووالدي ... وأطيب أرضٍ مسَّ جلدي ترابُها
وذكر أن جميلاً وكثيّراً وعمر بن أبي ربيعة اجتمعوا يوماً عند عبد الملك ابن مروان، فأوقرت ناقة ورقاء، ثمَّ قال: ليقلْ كلُّ واحدٍ منكم أبياتاً في الغزل، فأيّكم كان قوله أحسن فهي له، قال جميل:
حلفت يميناً يا بُثينةُ صادقاً ... فإن كنتُ فيها كاذباً فعميتُ
حلفتُ لها والبُدن تدمى نحورها ... لقد شقيت نفسي بها وعنيتُ
ولو أن جلداً غير جلدك مسَّني ... وباشرني تحت اللّحاف شريتُ
ولو أن داعي الموت يدعو جنازتي ... بمنطقكم في الناطقين حييتُ
وقال كثيّر:
بأبي وأمّي أنت من معشوقةٍ ... فطِنَ العدو لها فغُيِّر حالُها
وسعى إليَّ بعيب غرّة نسوةٌ ... جعل الإله خدودهنَّ نِعالُها
ولو أن عزّة خاصمت شمس الضُّحى ... في الحسن عند موفّق لقضى لها
وقال عمر بن أبي ربيعة:
ألا ليتَ أنِّي حين تدنو جنازتي ... شممتُ الَّذي ما بين عينيك والفمِ
وليت طهوري كان ريقُك كلُّهُ ... وليت حنوطي من مشاشك والدّمُ
وليت سُلَيْمَى في المنام ضجيعتي ... أعانقُها في جنَّةٍ أوْ جهنّمِ
فقال عبد الملك: يا صاحب جهنّم دونك الناقة بما عليها، وذكروا أن عبد الملك ابن مروان جمع بين جرير والفرزدق، وأمر بناقة فأوقرت، وقال: أيكما أقام الناقة ببيت من شعر فهي له. فقال الفرزدق:
أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها ... كأنها نقنقٌ يهوى بصحراءِ
فلم تقم الناقة فقال جرير:
أُنيخُها ما بدا لي ثمَّ أبعثها ... ترخي المشافر واللحيين إرخاءُ
وزجر الناقة بآخر البيت، فوثبت، فدفعها عبد الملك إليه.
واجتمعا أيضاً فقال جرير:
أنا القطران والشعراء جربى ... وفي القطران للجرب الشفاءُ
فقال الفرزدق:
فإن تكُ أنت قطراناً فإنِّي ... أنا الطّاعون ليس له دواءُ
فقال جرير:
أنا الموت الَّذي لا بدَّ منه ... وليس لهارب منه نجاءُ