فلا يضقْ عفوُكَ عن تائبٍ ... تضيقُ عنهُ سعةُ العُذرِ
وفي مثل ذلك يقول الآخر:
يا بيتَ خنساءَ الَّذي أتجنَّبُ ... ذهبَ الزَّمانُ وحبُّها لا يذهبُ
ما لي أحنُّ إذا جِمالكِ قرَّبتْ ... وأصدُّ عنكِ وأنتِ منِّي أقربُ
لله درُّكِ هلْ لديكِ مُعوَّلٌ ... لِمُكلَّفٍ أمْ هلْ لودِّكِ مطلبُ
وفي نحو ذلك يقول البحتري:
رحلتُ عنكَ رحيلَ المرء عن وطنهْ ... ورحلةَ السَّكنِ المشتاقِ عن سكنِهْ
فإنْ تحمَّلتُ صبراً عنكَ أوْ مُنيتْ ... نفسي به فهو صبرُ الطَّرفِ عن وسنِهْ
ولبعض الأعراب في مثل ذلك:
وإنِّي وإنْ لم آتِ ليلى وأهلها ... لَباكٍ علَى ليلى بُكا ذي التَّمائمِ
بُكاً ليسَ بالنَّزرِ القليلِ ودائمٌ ... كما الهجرُ من ليلى علَى الوصلِ دائمُ
هجرتُكِ أياماً بذي العُمرِ إنَّني ... علَى هجرِ أيامي بذي العُمرِ نادِمِ
فلمَّا مضتْ أيَّامُ ذي العمرِ وارتمى ... بيَ الهجرُ لامتني عليكِ اللَّوائمُ
وإنِّي وذاكَ الهجرُ لو تعلمينهُ ... كَمَاذيةٍ عن طفلها وهيَ رائمُ
ألمْ تعلمي أنِّي أهيمُ بذكركُمْ ... علَى حينِ لا يبقى علَى الوصلِ دائمُ
أظلُّ أُمنِّي النفسَ إيايَ خالياً ... كما يتمنَّى باردَ الماء صائمُ
ولقد أحسن العباس بن الأحنف حيث يقول:
لا بدَّ للعاشقِ من وقفةٍ ... تكونُ بينَ الوصلِ والصَّرْمِ
حتَّى إذا الهجرُ تمادى به ... راجعَ من يهوى علَى رغمِ
وأحسن أيضاً في قوله:
العاشقانِ كلاهما مُتعتِّبُ ... وكلاهما مُتذلِّلٌ مُتغضِّبُ
صدَّتْ مُراغمةً وصدَّ مُراغماً ... وكلاهما ممَّا يُعالجُ مُتعبُ
راجعْ أحبَّتكَ الذين هجرتهم ... إنَّ المُتيَّمَ قلَّ ما يتجنَّبُ
إنَّ الصُّدودَ إذا تمكَّنَ منكما ... دبَّ السُّلوُّ لهُ فعزَّ المطلبُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يا مُتُّ قبلكَ طالَ الحُزنُ والأسفُ ... وجاوزَ الشَّوقُ بي حدَّ الَّذي أصِفُ
قلبي إليكَ مع الهجرانِ مُنعطفٌ ... وأنتَ عنِّي رخيُّ البالِ مُنحرفُ
فإنْ تكنْ عن إخائي اليومَ مُنصرفاً ... فاللهُ يعلمُ ما لي عنكَ مُنصرفُ
هَبْني اعترفتُ بأنِّي لستُ ذا شغفٍ ... ألمْ يكنْ كمدي أن لستُ أنتصفُ
كمْ قد كذبتُ علَى قلبي فكذَّبني ... طولُ الحنينِ وعينٌ دمعها يكفُ
إن كنتَ يوماً مُقيلي زلَّةً سلفتْ ... فالآنَ من قبلِ أن يُغرى بيَ التَّلفُ
اللهَ اللهَ في نفسي فقدْ عطِبتْ ... وليسَ في قيلها من شُكرها خلفُ
قد ذلَّلَ الشَّوقُ قلبي فهوَ مُعترفٌ ... إنَّ التَّذلُّلَ في حكم الهوَى شرفُ
فاعملْ برأيكَ لا أدعوك مُعتدياً ... ولا أقولُ لشيءٍ قُلتهُ سرفُ
الباب السابع من طالَ سرورهُ قصرتْ شهورهُ
من صبر على الامتحان لمن يهواه على مثل ما ذكرناه كان خليقاً أن يبلغ أقصى مُناه وأهل هذه الحال الذين يحمدون الهوَى ويشكرونه ويصفون لذاذته للذين لا يعرفونه ويزرون على عيشٍ من لم يتطعَّم مذاقه ولم يُتعبَّد باسترقاقه ألم تسمع الَّذي يقول:
إذا أنتَ لم تعشقْ ولم تدرِ ما الهوَى ... فكنْ حجراً من يابسِ الصَّخرِ جلْمدا
فما العيشُ إلاَّ ما تلذُّ وتشتهي ... وإنْ لامَ ذو الشَّنآنِ فيه وفنَّدا
تبعتُ الهوَى جُهدي فمن شاءَ لامني ... ومن شاء آسى في البُكاء وأسعدا
والكميت أنصف من هذا حيث يقول:
ما ذاقَ بؤسَ معيشةٍ ونعيمها ... فيما مضى أحدٌ إذا لمْ يعشقِ
الحبُّ فيهِ حلاوةٌ ومرارةٌ ... سائلْ بذلك من تطعَّمَ أوْ ذُقِ
وقال القطامي:
ألا علِّلاني كلُّ حيٍّ مُعلَّلُ ... ولا تَعِداني الشَّرُّ والخيرُ مُقبلُ
فإنَّكما لا تدريانِ أما مضى ... من الدَّهر أمْ ما قد تأخَّرَ أطولُ
أنشد أبو تمام لنفسه:
أيُّ شيءٍ يكونُ أملحَ من صَ ... بٍّ أديبٍ متيَّمٍ بأديبِ
جازَ حُكمي في قلبهِ وهواهُ ... بعدما جازَ حُكمهُ في القلوبِ
كادَ أن يكتبَ الهوَى بينَ عينيهِ ... كتاباً هذا حبيبُ حبيبِ