فأبى إلاَّ قطعها، فدخلت عليه أمُّه فقالت يا أمير المؤمنين: واحدي وكاسبي. فقال: بئس الكاسب كاسبُك، وهذا حدٌّ من حدود الله لا أُعطّله. فقالت: يا أمير المؤمنين: اجعله من الذنوب الَّتي يستغفر الله منها، فعفا عنه. وهذا الفعل لا يُسمى عفوا، لأن العفو إنَّما هو ترك المرء ماله وترك مال غيره ممَّا قد جُعل هو القيّم عليه باستيفائه. فهو بباب التصنيع والإثم أشبه منه بباب العفو والحلم.
الباب السادس والسبعون ذكر
الافتخار بالشجاعة والانتصار
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة: أن العباس بن الفضل حدثهم قال: حدثنا محمد بن عبد الله التميمي قال: حدثنا الحسين بن عبد الله. قال: حدثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت النَّبيّ صلى الله عليه فأنشدته قولي:
وإنّا لقومٌ لا نُعوّدُ خيلنا ... إذا ما التقينا أنْ نُحيدَ ونَنْفرا
وتُنكرُ يوم الرَّوع ألوانَ خيلنا ... من الطَّعن حتَّى نحسُبَ الجون أشقرا
فليس بمعروف لنا أنْ نردَّها ... صِحاحاً ولا مُستنكراً أن تُعقّرا
وقال عنترة:
لمّا رآني قد نزلتُ أُريدُهُ ... أبدى نواجذَهُ لغير تَبسُّمِ
فطعنتُهُ بالرُّمح ثمَّ علوتُهُ ... بمُهنَّدٍ صافي الحديدةِ مُخْذمِ
فشككتُ بالرمح الطويل ثيابَهُ ... ليس الكريمُ علَى القنا بمُحرَّمِ
ولقد شفى نفسي وأبرأ سقمُها ... قيل الفوارسِ ويك عنترَ أقدمِ
إذْ يتَّقونَ بي الأسنَّةَ لم أصحْ ... عنها ولكني تضايقَ مقدمِ
يدعون عنترَ والرّماحُ كأنها ... أشطانُ بئرٍ في لَبانِ الأدهمِ
وله أيضاً:
بكرتْ تخوّفي الحتوفَ كأنني ... أمسيتُ عن غرضِ الحُتوفِ بمعزلِ
فأجبتُها أنَّ المنيَّةَ منهلٌ ... لا بدَّ أنْ أُسْقى بذاك المنهلِ
فاقني حياءك لا أبا لك واعلمي ... أنِّي امرؤ سأموتُ إن لم أُقْتلِ
وقال خُفاف حين قتل مالك بن حُباب الشمخي معاوية بن عمرو السلمي:
إن تكُ خيلي قد أُصيبَ صميمها ... فعمداً علَى عيني تيمَّمت مالكا
وقفتُ علَى علوى وقد خام صُحبتي ... لأبني مجداً أوْ لأثأر هالكا
أقول له والرمحُ يأطُرُ متْنهُ ... تأمَّلْ خفافاً إنَّني أنا ذلكا
وقال العباس بن عبد المطلب:
أبا طالب لا ترضَ بالنصف منهُمُ ... وإنْ أنصفوا حتَّى تَعُقّ وتظْلَما
أبى قومنا أن يُنْصفونا فأنصفَتْ ... قواطعُ في أيماننا تقطرُ الدّما
إذا خالطت هام الرّجال رأيتها ... كبيضِ نعام في الوغى قد تحطَّما
تركناهمُ لا يستحلّونَ بعدنا ... لذي رحمٍ يوماً من النَّاس مَحْرما
وقال آخر:
إذا ظلمتْ حكّامُنا وولاتنا ... خصمناهُمُ بالمُرهفات الصّوارمِ
سيوف كأنَّ الموتَ حالف حدَّها ... مشطبةٌ تفري متون الجماجمِ
إذا ما انتضيناها ليومِ كريهةٍ ... ضربنا بها ما استمسكتْ في القوائمِ
وقال أبو سفيان بن الحارث:
نحن وردنا بطن سلعٍ عليكمُ ... بأسيافنا والخيل تدمى نُحورُها
تركنا بني النّجار تعوي كلابهم ... غداة تولت واستمرَّ مريرُها
ونحن تركنا الخزرجي مُجدّلاً ... تمجُّ حياة النَّفس منه زفيرُها
تركناهُ لما غادرَتْه رماحُنا ... ولم يبقَ منه غير عين يُديرها
وقال قيس بن الخطيم:
ثأرت عديّاً والخطيمَ فلم أُضِعْ ... وصيَّةَ أشياخٍ جُعلتُ إزاءها
طعنتُ ابن عبد القيس طعنةَ ثائرٍ ... لها نَفذٌ لولا الشَّعاعُ أضاءها
ملكتُ بها كفَّي فانهرتُ فَتْقها ... يُرى قائماً من دونها ما وراءها
يهونُ عليَّ أن تردَّ جراحُها ... عيونَ الأواسي إذْ حَمِدتُ بلاءها
وكنتُ امرءاً لا أسمعُ الدَّهرَ سُبَّةً ... أُسَبُّ بها إلاَّ كشفتُ غطاءها
مَتَى يأتِ هذا الدَّهرَ لا يُبقَ حاجةٌ ... لنفسيَ إلاَّ قد قضيت قضاءها
وذكروا أن معاوية ركب فرسه عازماً للهرب. قال: فذكرت أبياتاً لعمرو ابن الإطنابة فوقفت وهي قوله:
أبت لي عفتي وأبى بلائي ... وأخذي الحمدَ بالثمن الربيحِ
وإجشامي علَى المكروه نفسي ... وضربي هامةَ البطلِ المشيحِ