ما زال يظلمني وأنصفُه ... حتَّى بكيتُ له من الظُّلمِ
وقال آخر:
وليس يتمُّ الحلمُ للمرء راضياً ... إذا هو عند السُّخطِ لم يتحلَّمِ
كما لا يتمُّ الجودُ للمرء موسراً ... إذا هو عند العُسر لم يتجشَّمِ
وقال معن بن أوس المُزني:
لعمرُكَ ما أدري وإنِّي لأوْجَلُ ... علَى أيّنا تغدُو المنيَّةُ أوَّلُ
وإنِّي أخوكَ الدائمُ العهد لم أحُلْ ... إن آذاك خصمٌ أوْ نبا بك منزلُ
أُحاربُ من حاربتَ من ذي قرابةٍ ... وأحبسُ مالي إن غرمتَ فأعقلُ
وإن سُؤتني يوماً صفحتُ إلى غدٍ ... ليُعْقِبَ يوماً منك آخرُ مقبلُ
ستقطعُ في الدُّنيا إذا ما قطعتني ... يمينك فانظر أيَّ كفّ تبدَّلُ
إذا أنت لم تُنصفْ أخاكَ وجدتَهُ ... علَى طرف الهجران إنْ كانَ يعقلُ
ويركبُ حدّ السَّيف من أن تضيمَهُ ... إذا لم يكنْ عن شفرةِ السَّيف مَزْحَلُ
وفي النَّاسِ إن رثَّتْ حبالُكَ واصلٌ ... وفي الأرض عن دار القلى مُتحوّلُ
إذا انصرفتْ نفسي عن الشَّيء لم تكدْ ... إليه بشيءٍ آخرَ الدَّهر تُقبلُ
وقال آخر:
بلاءٌ ليس يُشبههُ بلاء ... عداوةُ غير ذي حسبٍ ودينِ
يُبيحُكَ منهُ عِرْضاً لم يصنْهُ ... ويرتعُ منك في عِرض مَصونِ
وقال أبو الدّلف:
إذا نطق السفيه فلا تُجبْهُ ... فخير من إجابتهِ السُّكوتُ
سكتُ عن السفيه وظنَّ أنِّي ... عييتُ عن الجواب وما عَييتُ
سفيهُ القوم يشتمني فيحظى ... ولو دمَهُ سفكت لما حظيتُ
أنشدني البحتري لنفسه:
دعاني إلى قول الخنى واستماعه ... أبو نَهْشلٍ بعد المودَّة والحلفِ
وأخطرني للشّاتمين ولم أكُنْ ... لأُشتم إلاَّ بالتكذّب والعَرفِ
فما ثلموا مجدي ولا فتلوا يدي ... ولا ضعضعوا عزّي ولا زعزعوا كهفي
ولما تبارينا فررت من الخنى ... بأشياخِ صدق لم يفرّوا من الزحفِ
وإنَّ جديراً أن تبيت ركائبي ... بديمومةٍ تسفي بها الريح ما تسفي
وأجبُنُ عن تعريض عرضي لجاهلٍ ... وإن كنت في الإقدام أطعنُ في الصّفِّ
وإنِّي لئيمٌ إن تركتُ لأسرتي ... أوابدَ تبقى في القراطيسِ والصّحفِ
وقال آخر:
وإنِّي لأُقصي المرءَ عن غير بِغْضةٍ ... وأُدني أخا البغضاء منّي علَى عَمْدِ
ليُحدثَ ودّاً بعد بغْضاءَ أوْ أَرَى ... له مصرعاً يُردي به الله من يُردي
وقائل هذه الأبيات غير داخل في باب الصفح عن المجرمين بل هو داخل في باب انتظار الفرصة لمعاقبة المذنبين، وليس ذلك لعيب في كل الحالان إذْ في الأحوال ما يكون الصفح عن المجرم جرماً عظيماً، وفساداً كثيراً، لأن العقاب على ثلاثة أضرب، فعقاب يدخل في باب التشفي، وعقاب يدخل في باب التأديب، وعقاب يدخل في باب الحدود. وإنَّما يصلح الصفح فيما يدخل في باب التّشفي وحده. نحو ما قدمنا في صدر هذا الباب ذكره، ولا يصلح في النوعين المذكورين بعده. فأمَّا ترك العقاب الداخل في باب التأديب فداعٍ إلى فساد التدبير، وعائد بالضرر على المعفو عنه وفي نحو ذلك يقول أبو تمام:
كانت لكم أخلاقُهُ معسولةً ... فتركتموها وهي ملحٌ علقَمُ
فقسا لتزدجروا ومن يكُ حازماً ... فليقس أحياناً علَى من يرحمُ
وأخافكم كي تغمدوا أسيافكم ... إن الدمَّ المغترَّ يحبُسهُ الدمُ
وندمْتُم ولو استطاع علَى جوى ... أحشائكم لوقاكم أن تندموا
على أنَّه ينبغي للمعاقب التأديب ألا يزيد على مقدار الاستحقاق فيدخل في باب الظلم كما قال أشجع:
منعت مهابتك النفوس حديثها ... بالأمر تكرهُهُ وإن لم تعلم
لا يُصلحُ السلطانَ إلاَّ شدَّة ... تغشى البريء بفضل ذنب المجرم
وأمَّا ترك العقاب الَّذي يدخل في باب الحدود فمعصية لله عز وجل، ومن أعظم الجهل طلب المكارم بالدخول في باب المحارم كما بلغنا عن عبد الملك بن مروان أنَّه أراد قطع يد رجل سرق فكتب إليه من الحبس:
يدي يا أمير المؤمنين أعيذها ... بعفوكَ أنْ تلقى مكاناً يَشينُها
ولا خير في الدُّنيا وكانت حبيبةً ... إذا ما شمالي فارقتها يمينُها