هذا وفيَّ خِلالٌ كلُّها سببٌ ... إلى الغِنَى غيرَ أن الرزقَ لم يُجبِ
لا أتهم الله في رزقي فما صَرَفت ... عنِّي المكاسبَ إلاَّ حرفةُ الأدبِ
قال أبو العبر:
ليس لي مالٌ سوى كرمي ... فيه أمنٌ لي من العَدَم
لا أقول الله يظلمني ... كيف أشكو غير متَّهم
قَنعت نفسي بما رُزقتْ ... وتمطَّت في العُلى هممي
ولبستُ الصبر سابغةً ... فهي من قرني إلى قدمي
فإذا ما الدَّهر عاتبني ... لم يجدني كافرَ النّعم
وقال آخر:
إذا سُدَّ بابٌ عنك من دون حاجةٍ ... فدعْهُ لأُخرى ليّنٌ لك بابُها
فإن قرابَ البَطن يكفيك مِلؤُهُ ... ويكفيك سوءاتِ الأمور اجتنابُها
وقال آخر:
الدَّهر لا يبقى علَى حالةٍ ... لكنَّه يُقبلُ أوْ يُدبرُ
فإن تلقاك بمكروهةٍ ... فاصْبر فإن الدَّهر لا يصبرُ
وقال بعض الكلابيين:
فإنِّي لصوانٌ لنفسي وإنَّني ... علَى الهول أحياناً بها لرَجومُ
وفرَّق بين الحيِّ بلوي مُشتّتٌ ... ومحتملٌ من ظاعن ومقيمُ
وأقحاط أقوام كأنَّ وليدها ... وإنْ كانَ حي الوالدين يتيمُ
قال بعض الأعراب:
إذا مِتُّ فابكيني بثنتين لا يُقَلْ ... كذبت وشرُّ الباكيات كذوبُها
بعفَّة نفسٍ حين يُذكر مَطمعٌ ... وعزَّتها إنْ كانَ أمرٌ يُريبُها
وإن قلتِ سِمْحٌ في النَّدَى لا تكذبي ... فأمَّا تُقى نفسي فربِّي حسيبُها
وأخبرني محمد بن الخطاب الكلابي أن فتى من الأعراب خطب ابنة عم له وكان معسراً، وأبى عمه أن يزوّجه فكتب إلى ابنة عمه هذه الأبيات:
يا هذه كم يكون اللّوم والفَندُ ... لا تعذلي رجلاً أثوابُهُ قِدَدُ
إن يمسِ منفرداً فالبدرُ منفردٌ ... واللَّيث منفردٌ والسَّيف منفردُ
أوْ كنتِ أنكرتِ طِمريه وقد خَلِقا ... فالبحر من فوقه الأقذار والزَّبَدُ
إنْ كانَ صرفُ الليالي رثَّ بزّته ... فبين ثوبيه منها ضيغم لُبَدُ
قال: فدخلت بالأبيات على أبيها فقال لها: ما أُريد لك صداقاً غيرها، فدعاه فزوَّجه إيَّاها.
الباب الخامس والسبعون
ذكر
من افتخر لنفسه بالإغضاء عن خصمه
قال المتلمّس:
تحلَّمْ عن الأدنين واستبقِ منهُمُ ... ولن تستطيعَ الحلمَ حتَّى تحلَّما
وكنَّا إذا الجبار صعَّر خدَّه ... أقمنا له من مَيله فتقوَّما
فلو غيرُ أخوالي أرادوا نقيصتي ... جعلتُ لهم فوقَ العرانين ميسما
وهلْ كنت إلاَّ مثل قاطع كفّه ... بكفٍّ له أُخرى فأصبح أجذما
يداه أصابتْ هذه حتفَ هذه ... فلم تجدِ الأُخرى عليها مُقدَّما
فلمَّا أقاد الكفّ بالكفّ لم يكنْ ... له دركٌ في أن تَبينا فأحجما
فأطرقَ إطراق الشُّجاع ولو رأَى ... مَساغاً لنابيه الشُّجاعُ لصمّما
وقال آخر:
قومي هُمُ قتلوا أميم أخي ... فإذا رَمَيْتُ أصابني سهمي
فلئن عفوتُ لأعفوَنْ جَلَلاً ... ولئن ضربتُ لأُوهننْ عظمي
وقال آخر:
وذي خَطَل في القولِ يَحسب أنَّه ... مُصيبٌ فما يُلممْ به فهو قائله
عَبأت له حلماً وأكرمتُ غيرَهُ ... وأعرضت عنه وهو بادٍ مقاتله
وقال وعلة بن الحرث الجرمي:
ما بالُ من أسعى لأجبر عظمه ... حفاظاً وينوي من سَفَاهته كسرِي
أعودُ علَى ذي الجهل والذّنب منهمُ ... بحلمي ولو عاقبتُ غرَّقهم بحرِي
أناةً وحلماً وانتظاراً لهم غداً ... فما أنا بالواني ولا الضّرعَ الغمرِ
ألم تعلموا أنِّي تُخافُ غَرامتي ... وأنَّ قناتي لا تلينُ علَى الكسرِ
وقال ابن صريم الجرمي:
أردُّ الكتيبةَ مغلولةً ... وقد تركت ليَ أحسابَها
ولستُ إذا كنت في جانب ... أذمُّ العشيرة مُغتابها
ولكن أُطاوع ساداتها ... ولا أتعلَّمُ ألقابَها
وقال آخر:
وإنا لنعطي الضَّيم من لا نضيمُهُ ... يُقرُّ ونأبى نخوة المتظلّم
أناةً وحلماً ثمَّ كانَ لقاؤها ... رهيناً بيومٍ كاسف الشَّمس مظلم
وقال آخر:
إن كنتَ لا ترهبُ ذمِّي لما ... تعلمُ من صَفْحي عن الجاهلِ