ولو كان هذا الشاعر صرف همَّته إلى ذكر مكرمة عن نفسه هذا الصرف قد أبرَّ على كلّ من ذكرنا شعره.
الباب الرابع والسبعون
ذكر
من أظهر الجزع من الفقر
وقنع به، وافتخر بالصبر
قال حطَّان بن المعلَّى:
أنزلني الدَّهرُ علَى حكمهِ ... من شاهقٍ عالٍ إلى خفضِ
وغالني الدَّهرُ بوفرِ الغِنَى ... فليس لي مالٌ سوى عرضي
أبكاني الدَّهرُ ويا ربَّما ... أضحكني الدَّهرُ بما يُرضي
لولا بنيَّاتٌ كزغبِ القطا ... رُددنَ من بعضٍ إلى بعضِ
لكانَ لي مضطربٌ واسعٌ ... في الأرض ذات الطولِ والعَرضِ
وإنما أولادنا بيننا ... أكبادنا تمشي على الأرضِ
وأنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
والله لولا صبيةٌ صغار ... وجوههمْ كأنَّها أقمار
تجمعهمْ من العتيك دارٌ ... درادق ليس لهمْ دثار
باللَّيل إلاَّ أن تُشبّ نار ... لما رآني ملكٌ جبَّار
ببابهِ ما سطع النَّهار
وقال آخر:
لولا أُميمةُ لم أجْزع من العدمِ ... ولم أُقاسِ الدُّجَى في حِندس الظّلمِ
وزادني رغبةً في العيش معرفتي ... ذلَّ اليتيمة يجْفوها ذوو الرَّحمِ
أحاذرُ الفقر يوماً أن يُلمّ بها ... فيكشفَ السترَ عن لحم علَى وضمِ
تهوى حياتي وأهوَى موتها شغفاً ... والموتُ أكرمُ نزَّالٍ علَى الحُرَمِ
وأنشدنا أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
إلى الله أشكو بالمدينة حاجةً ... وبالشَّام أُخرى كيف تلتقيانِ
سأُعملُ نصّ العيس حتَّى يكُفني ... غنَى المال يوماً أوْ غنَى الحدثانِ
وقال نهيك بن أُساف:
أَمّ نهيكٍ ارفعي الظنَّ صاعداً ... ولا تيأسي أنْ يُثريَ اليومَ بائسُ
سيكفيك سيري في البلادِ وبُغيتي ... وبعلُ الَّتي لم يحظ في البيتِ جالسُ
سأكسبُ ملاً أوْ تبيتنَّ ليلةً ... لصدركَ من وجدٍ عليَّ وساوسُ
ومَن يكسبِ المالَ المُمنَّعَ بالقنا ... يعشْ مثرياً أوْ يُودَ فيما يُمارسُ
وقال آخر:
فما طلب المعيشة بالتَّمنِّي ... ولكنْ القِ دلوك في الدّلاءِ
تجيءُ بملئها يوماً ويوماً ... تجيءُ بحمأةٍ وقليل ماءِ
وقال آخر:
فسرْ في بلادِ الله والتمسْ الغِنَى ... تعشْ ذا يسار أوْ تموتَ فتُعذرا
ولا ترضَ من عيشٍ بدونٍ ولا تنمْ ... وكيفَ ينامُ اللَّيل من كانَ مقترا
وأجود من هذه المعاني قول الآخر:
إذا ذهبت نفسي لدنيا أصبتُها ... فقد ذهبتْ نفسي وقد ذهب الثَّمنْ
لها تُطلبُ الدُّنيا فإن أنا بعتُها ... بشيءٍ من الدُّنيا فذلكمُ الغَبَنْ
قال محمود الوراق:
بَخلتُ وليس البخلُ منِّي سجيَّةً ... ولكنْ رأيتُ الفقرَ شرَّ سبيلِ
لَموتُ الفَتَى خيرٌ من البخلِ للفتَى ... وللبخلُ خيرٌ من سؤالِ بخيلِ
وأحسن من ذا قولاً وهو في ضدّ معناه الَّذي يقول:
إنَّ القناعةَ عزٌّ دائم وغنًى ... والذُّلُّ والفقرُ في ذي الحرص والطَّمعِ
لا يمنعنكَ من عَودٍ بعارفةٍ ... خوف الخصاصة أوْ كفران مُصطنعِ
فهؤلاء الذين وصفنا حالهم في صدر هذا الباب إنَّما دعاهم إلى بذل أنفسهم في طلب المال الخوف على عيالهم، ولم يريدوا بذلك مباهاة لغيرهم، ولا مكاثرة لهم بأموالهم فهم لعمري أعذر ممَّن بذل نفسه، واستعمل جاهه، وانصب جسمه في طلب ما لم تدفعه الضرورة إلى طلبه، ويكسب مالاً فقرنه إلى كسب كما قال امرؤ القيس، وهو من جيد كلامه، وهو من الأمثال السائرة من شعره وإن كان غير محمود المعنى في حقيقته:
فلو أن ما أسعى لأدنَى معيشةٍ ... كفاني ولم أطلب قليلاً من المالِ
ولكنما أسعى لمجدٍ مؤثَّلٍ ... وقد يُدرك المجدَ المؤثل أمثالي
وما المرءُ ما دامت حُشاشة نفسهِ ... بمُدرك أطراف الخطوب ولا آلِ
وكما قال أيضاً:
بكى صاحبي لمَّا رأى الدربَ دونَهُ ... وأيقنَ أنَّا لاحقان بقيصرا
فقلتُ لهُ لا تبكِ عينكَ إنَّما ... نحاولُ مُلكاً أوْ نموتُ فنُعذرا
وكما قال يزيد بن خذاق:
ذريني أسير في البلادِ لعلَّني ... أُصيبُ غنًى فيه لذي الحقّ مَحْملُ