غمام حيا ما تستريح بروقُهُ ... وعارضُ موتٍ ما تقيل رواعدُهْ
وعمرُ بن مُعدي إن ذهبتَ تهيجهُ ... وأوسُ بن سُعدى إنْ ذهبتَ تكايدُهْ
تظلُّ المنايا والعطايا قرائناً ... لعافٍ يُرجِّيه وغاوٍ يُعاندُهْ
له بدعٌ في الجودِ تدعو عذولهُ ... عليه إلى استحسانها فتباعدُهْ
وقال أيضاً:
لولا عليُّ بن مُرٍّ لاستتمَّ لنا ... خِلْفٌ من العيشِ فيه الصَّاب والصَّبرُ
ألحَّ جوداً ولم يضرُرْ سحائبُهْ ... وربَّما ظنَّ عند الحاجة المطرُ
لا يُتعبُ النائلُ المبذولُ همَّتهُ ... وكيفَ يُتعبُ عينَ النَّاظرِ النَّظرُ
مواهبٌ ما تجشَّمنا السُّؤالَ لها ... إنَّ الغمامَ قليب ليس يُحتقرُ
يُهابُ فينا وما في لحظه شِزرٌ ... وسطَ النديّ وما في خدِّه صَعَرُ
إذا ارتقَى في أعالي الرَّأي لاحَ له ... ما في الغيوبِ الَّتي تخفَى فتستترُ
ومُصعدٌ في هضابِ المجدِ يطلعُها ... كأنَّهُ لسكونِ الجأشِ مُنحدرُ
ما زالَ يسبقُ حتَّى قالَ حاسدُهُ ... لهُ الطَّريقُ إلى العلياءِ مُختصرُ
نهيتُ حُسَّادهُ عنهُ وقلتُ لهم ... السَّيلُ باللَّيلِ لا يبقَى ولا يَذَرُ
كُفُّوا وإلاَّ كففتمْ مُضمري أسِفاً ... إذا تنمَّر في أقدامِهِ النَّمِرُ
ألوى إذا شابكَ الأعداء كفَّهم ... حتَّى يروحَ وفي أظفارِهِ الظَّفَرُ
واللؤمَ أن تَدخلوا في حدِّ سخْطتهِ ... علماً بأن سوف يعفو حينَ يقتدرُ
وقال أيضاً:
عزَماتٌ يُصبنَ ناجيةَ الخطْ ... ب ولو كانَ من وراءِ حجابِ
يتوقَّدْن والكواكبُ مطفاةٌ ... ويقطعنَ والسّيوفُ نَوابي
تركَ الخفضَ للدَّنيء وقاس ... صَعبةَ من صعوب تلك الرَّوابي
سامَ للمجدِ فاشتراه وقد با ... تَ عليهِ مُزايداً للسَّحابِ
واحدُ القصدِ طرفُهُ في ارتفاعٍ ... من سُمُوٍّ وكفُّهُ في انصِبابِ
صُنتَني عن مُعاندٍ لا أسمّي ... أوَّلوهُمْ إلاَّ غَداة سِبابِ
وقد ذكرنا في هذا الباب طرفاً من الأخلاق المحمودة مجملاً، ونحن نذكر إن شاء الله ما بقي من ذلك مفصلاً، فنفرد لكلّ باب منه ما يشاكله ومن شأن كثير من الشعراء أن يفرطوا فيما يصفونه وليس ذلك بمحمود في خلائق الكرماء ولا مستحسن من أفعال الشعراء إلاَّ من أسرف في الحفظ كان مقتراً ومن أسرف في الشَّجاعة كان متهوراً، كما أن من أسرف في الجدّ عدَّ جباناً، ومن تجاوز حدّ الحلم كان مستدلاً، كما أنَّ من تعدَّى الانتصار عُدَّ خرقاً، ومن أفرط في قلَّة الكلام كان مستجهلاً، كما أنَّ من أفرط في الإطراء كان مهذاراً. والتأديب بتأديب الله عزّ وجلّ وأدب رسوله صلى الله عليه وسلّم هو الطريق الَّذي من سلكه اهتدى، والوجه الَّذي من قصده آمن من بوائق الرَّدى. قال الله يمدح قوماً:) والَّذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما (.
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة عن العباس بن الفضل عن أبي عبد الله التميمي قال: أخبرني الحسين بن عبد الله قال: حدَّثني من سمع النابغة الجعدي يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأنشدته، فذكر أبياتاً وحكى كلاماً بعدها، قال: فلمَّا أنشدته:
ولا خير في حلمٍ إذا لم يكن له ... بَوادِرُ تَحْمي صَفوه أن يُكدَّرا
ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ... حَلوم إذا ما أورَدَ الأمر أصدرا
قال النَّبيّ صلى الله عليه: " لا يفضض الله فاك ".
الباب الثاني والستون
ذكر
من سود في حداثته وقدم في بلاغته
أنشدني أحمد بن يحيى عن ابن الأعرابي:
لعمرك إنِّي يوم فيد لمعتلٍ ... بما ساء أعدائي علَى كثرةِ الدخرِ
أمارس عن نفسٍ عليَّ كريمةٍ ... موطنةٍ عند النوائب للصبرِ
وما زلتُ أعلو القول حتَّى لو أنَّني ... أجوّبه في الصَّخر لانجاب الصخرِ
وما زلت مذ كنت ابن عشرين حجة ... أُواري عدوّي أوْ أقوم علَى ثغرِ
ويوم يودّ المرء لو غصَّ قبله ... بمرأى المنايا قد شددت لها أزري
لابن بيض في هذا المعنى:
بلغتَ لعشر مضَتْ من سني ... ك ما يبلغُ السيدُ الأشيبُ