أما صدر الكلام فحسن، وأمَّا البيت الأخير ففيه إفراط شديد، ومعنى ليس بالعذب، ولا بالشديد، وذلك أن الشجاع إنَّما يؤثر الموت على الفرار خوفاً لما يلحقه من العار، فإنما إيثاره قتل الأعداء له على قتله لهم، وظفرهم به وبقومه على ظفره بهم وبقومهم. فهذا يخرج عن حد الشجاعة، ويدخل في حدّ الرقاعة، وليس ينبغي لكل من تمكن من معنى، وتسهّل له نظمه أن ينظمه في شعره، ويحتمل ما يدخل فيه من المجال، رغبةً في التوفيق في الحال، وطلب التوسط والاعتدال، خيرُ على كل حال، لأنه لا يخرج عن حدّ التقصير والإخلال، ولا يبلغ بصاحبه إلى درجة المحال.
قالت بنت بدر ترثي الزبير بن العوام:
غَدَ ابن جُرْموزٍ بفارس بُهْمَةٍ ... يومَ اللقاء وكان غيرَ مُعَرَّدِ
يا عمرو لو نبَّهتهُ لوجدتَهُ ... لا طائشاً رعشَ الجنانِ ولا اليدِ
ثكِلتكَ أمُّكَ إن قتلتَ لمُسلماً ... حلَّتْ عليكَ عُقوبةُ المُتعمِّدِ
وكان قتل الزبير فيما بلغنا أنَّه لما انصرف عن البصرة تبعه ابن جرموز فعطف عليه الزبير فقال له: نشدتُكَ بالله فكف عنه، فلما جاوزه تبعه فلما عطف عليه الزبير رحمه الله ناشده فكف عنه، فلما صار على قريب من فرسخين من البصرة نام فضربه بن جرموز مغتالاً، فقال: ما له قاتله الله يذكرني بالله ثمَّ ينساه فأخذ رأسه وصار به إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقال للآذن ائذن له، وبشره بالنار، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: بشِّر قاتل ابن صفية بالنار فقال ابن جرموز:
أتيتُ عليّاً برأس الزبير ... وقد كنت أرجو به الزُّلفةِ
فبشَّر بالنَّار قبل العيا ... نِ فبئس بشارة ذي التحفةِ
فسيّان عندي رأسُ الزبيرِ ... وضرطة عنز بذي الجُحفةِ
أنشدنا ابن أبي طاهر:
دموعٌ أجابت داعيَ الحُزن هُجَّعُ ... توصَّلُ منا عن قلوب تَقطَّعُ
عفاءٌ علَى الدُّنيا طويل فإنها ... تُفرّق من حيث ابتدت تتجمّعُ
ولما قضى ثوب الحياة وأوقعت ... به نائبات الموت ما يتوقعُ
غدا ليس يدري كيف يصنع مُعْدمٌ ... دَرى دمعُهُ من وجده كيف يصنعُ
وقمنا فقلنا بعد أن أُفردَ الثوى ... به ما يُقالُ للسحابة تُقلع
ألمْ تكُ ترعانا من الدَّهر إن سطا ... وتحفظ من آمالنا ما نُضيّعُ
وتربطُ جأشاً والكماةُ قُلوبُهم ... تزعزع خوفاً من فتى يتزعزعُ
فأُنطق فيه حامد وهو مُفْحمٌ ... وأُفحمَ فيه حاسدٌ وهو مِصْقَعُ
وقال البحتري:
قبور بأطراف الثغور كأنها ... مواقعُها منها مواقعُ أنجمِ
حتوف أصابتها الحتوف وأسهمٌ ... من الموت كرَّ الموت فيها بأسهمِ
تُرى البيض لم تعرفهمُ حيث واجهت ... وجوههُمُ في المأزق المتجهمِ
بلى أن حدَّ السَّيف أعذرُ صاحبٍ ... وأكفرُ من نالتْهُ نعمةُ منعمِ الباب السادس والخمسون
ذكر
النوح علَى من مات من الأبناء والقرابات
ذكروا أن النبي صلى الله عليه وسلّم، لما قتل النَّضْر بن الحارث بن كَلْدة جاءت أخته فعلقت بزمام راحلته صلى الله عليه وأنشأت تقول:
يا راكباً إن الأثيلَ مظنَّةٌ ... من صُبْحِ خامسةٍ وأنتَ مُوفَّقُ
بلِّغ به مَيْتاً بأن تحيةً ... ما إن تزال به النجائب تخْفقُ
منّي إليه وعَبْرةٍ مسفوحةً ... جادتْ لمائحها وأُخرى تخْنُقُ
هل يسمعَنَّ النَّضِرُ إنْ ناديتهُ ... إن كان يسمعُ ميتٌ لا ينطقُ
ظلّت سيوفُ بني أبيه تَنوشُهُ ... لله أرحامٌ هناك تَشقّقُ
النضرُ أقربُ ما أخذت قرابةً ... وأحقُّهم إنْ كان عتْقٌ يُعْتقُ
ما كان ضَرَّك لو منَنْت ورُبّما ... منَّ الفَتَى وهو المغيظَ المُحنقُ
فيقال أن النبي صلى الله عليه قال: لو سمعت هذا قبل أن أقتله ما قتلته، وليس هذا مستنكر من أخلاقه. وذكروا أن أبا بكر الصديق رحمه الله صلى الصبح يوماً فلما انفتل قام متمم بن نويرة في مؤخر الناس، وكان رجلاً أعورَ ذميماً فاتّكى علَى سيَّةِ قوسه ثمَّ قال:
نِعمَ القتيلُ إذا الرياحُ تناوحت ... خلف البيوت قُتلْتَ يا ابنَ الأزورِ