أدعوتهُ بالله ثمَّ غرَرْتهُ ... لو هو دعاكَ بربه لم يُغررِ
وأومأ إلى أبي بكر فقال أبو بكر: والله ما دعوته، ولا غدرت به. ثمَّ بكى مُتمّم وانخرط على سيَّةِ قوسه حتَّى دمعت عينه العوراء. ثمَّ أتمَّ شعره فقال:
لا يُمسكَ العوراءَ تحت ثيابه ... حُلوٌ شمائله عفيف المئزر
ولنعمَ حشوَ الدرع كنت وحاسراً ... ولنعم مأوى الطارق المتنوّر
فقال له عمر: لوددت أنك رثيتَ أخي بمثل هذا. فقال يا أبا حفص: لو لم أعلم أن أخي صار حيث ما صار أخوك ما رثيته: يعني أن أخا عمر مات شهيداً فقال عمر: ما عزَّاني أحدٌ عن أخي بمثل تعزيته. وذكروا أنّ مُتمّم بن نويرة كان لا يمرُّ بقبر، ولا يُذكر الموت بحضرته إلاَّ قال: يا مالك ثمَّ فاضت عبرته ففي ذلك يقول:
وقالوا أتبكي كل قبر رأيته ... لقبر ثوى بين اللِّوى فالدكادكِ
فقلت لهم إن الأسى يبعث البُكا ... ذروني فهذا كلُّه قبرُ مالك
وقال دُريد بن الصمّة يرثي أخاه:
أمرتهُمُ أمري بمُنْعرج اللِّوى ... ولم يسْتبينوا النُّصحَ إلاَّ ضُحى الغدِ
فلما عصوني كنتُ منهم وقد أرى ... غوايتهم وأنَّني غيرُ مُهْتدِ
فما أنا إلاَّ من غزيّة إن غَوتْ ... غويتُ وإن ترشُدْ غزيّةَ أرشُدِ
وقلتُ لهم طنّوا بألفي مُقاتل ... سرابهمُ في الفارسيِّ المُسَرَّدِ
دعاني أخي والخيلُ بيني وبينهُ ... فلما دعاني لم يجدْني بقُعْددِ
فجئت إليه والرماح تنوشهُ ... كوقع الصّياصي في النسيج المُمدَّدِ
وكنتُ كذاتِ البَوِّ ريعتْ فأقبلت ... إلى قطع من جلد سَقْب مُقدّدِ
فطاعنتُ عنه الخيلَ حتَّى تنهنهتْ ... وحتَّى علاني حالك اللون أسودِ
فنادوا وقالوا أردت الخيلَ فارساً ... فقلتُ أعبدَ الله ذلكم الرَّدي
فإن يكُ عبد الله خلَّى مكانهُ ... فما كان وقّافاً ولا طائشَ اليدِ
قليل التشكّي للمصيبات حافظٌ ... من اليومِ أعقابَ الأحاديثِ في غدِ
وقالت الخنساء في أخيها:
وقد كنتُ أستعفي الإله إذا اشتكى ... من الأجر لي فيه وإنْ عَظُم الأجْرُ
وأجزعُ أن تنأى به بين أهله ... فكيف ببينٍ صار معتاده الحشرُ
وقالت أيضاً:
يا صخر بنت فهاجني تذكاري ... شأنيك عاش بذلةٍ وصغار
كنا نعدُّ لك المدائح كلها ... فاليوم صرت تناح في الأشعار
وقال أيضاً:
ألا يا صخرُ إن أبكيتَ عَيْني ... فقد أضحكتني دهْراً طويلا
بكيتُك في نساءٍ مُعْولاتٍ ... وكنتُ أحقَّ من أبدى العويلا
دفعتُ بك الجليلَ وأنت حيٌّ ... فمن ذا يدفعُ الخطبَ الجليلا
إذا قَبُحَ البُكاءُ علَى قتيلٍ ... رأيتُ بكاءك الحَسنَ الجميلا
ولما مات عاصم بن عمر بن عبد العزيز جزع عليه أخوه عبد الله فرثاه فقال:
فإنْ تكُ أحزان وفائض عَبْرةٍ ... أثرْنَ دماً من داخل الجوف منقعا
تجرّعتما في عاصمٍ واحتسبْتُها ... لأعظمَ منها ما احتسى وتجرَّعا
فليتَ المنايا كُنَّ صادفْنَ غيرهُ ... فعشنا جميعاً أوْ ذهبْنَ بنا معا
وقال ربيع الأسدي يرثي أخاه:
كأني وصيفيُّ شقيقيَ لم نَقُلْ ... لموقد نار آخرَ اللَّيل أوْقدِ
فلو أنَّها إحدى يديَّ رُزِئتها ... ولكنْ يدي بانتْ علَى إثرها يدي
وقال آخر في أخ له قُتل:
زعموا قُتلتَ وعندهُمْ عُذْرُ ... كذبوا وقبرك ما لهُ عُذرُ
والله لو بِك لم أدَعْ أحداً ... إلاَّ قتلتَ لفاتني الوترُ
قال العتبي من ولد عتبة بن أبي سفيان، وكان من رواة أخبار الجاهلية والإسلام ومات له بنون فرثاهم مراتٍ كثيرة منها:
أضْحتْ بخدي الدموع رسومُ ... أسفاً عليك وفي الفؤادِ كُلومُ
والصبرُ يُحمدُ في المصائبِ كُلِّها ... إلاَّ عليك فإنَّه مَذمومُ
ما واحدٌ في ستةٍ أسكنتُهم ... حُفَراً تُقسَّمُ بينهم ورجومُ
لولا معالمُ رسمهن لما اهتدى ... لحميمه بين القُبور حميمُ
وقال أيضاً:
أما يزجُر الدَّهرُ عنِّي المنونا ... يُبَقّي البنات ويُفني البنونا
وكنتُ أبا ستة كالبدو ... رقدَ فقأوا أعين الحاسدينا