حدَّثني أبو العباس أحمد بن يحيى قال: حدَّثني محمد بن الفضل بن العباس قال: خرج الغريض ومعبد حتَّى إذا كانا على الثنيّة الَّذي تشرف بهم على مكَّة فقال الغريض لمعبد: لك كلّ من كان بها من أهل المدينة فاندفع يغني راكباً نحو المدينة:
يا راكباً نحو المدينة جَرةً ... أُجُداً تنازع حلْقةً وزماما
أقرأ علَى أهل البقيع من أمري ... عَمْد علَى أهل البقيع سلاما
كم غيّبوا فيه كريماً ماجداً ... كهلاً ومُقتبلَ الشَّباب غُلاما
ونفيسةً في أهلها مزكوةً ... جَمَعت صباحةَ جُثَّةٍ وثماما
فسمعتُ البكاء من سطوح مكة من ها هنا ومن ها هنا من كان بها أم كان من أهل المدينة. فاندفع يتغنى:
أسعداني بعبرةٍ أسرابِ ... من دموعٍ كثيرة التّسكابِ
إن أهل الخضابِ قد تركوني ... موزعاً مولعاً بأهل الخضابِ
سكنوا الجزْع جزعَ بنت أبي مو ... سى إلى النَّخلِ من صُفيّ السيابِ
سكنوا بعد غبطةٍ ورجاءٍ ... وسرورٍ بالعيشِ تحتَ التُّرابِ
كم بذاك الحجون من حيّ صدقٍ ... وكُهول أعفَّةٍ وشبابِ
فارقوني وقد علمتُ يقيناً ... ما لمن ماتَ مِيتةً من إيابِ
أهلُ بيت تَتَابعوا للمنايا ... ما علَى الموتِ بعدهُم من عتابِ
فلي اليوم بعدهم وعليهم ... صرتُ فرداً وملَّني أصحابي
قال: فما بقيت دار إلاَّ سمعنا فيها الصّراخ يصرخون حتَّى اصطبحوا.
وقال زهير بن أبي سُلمى يرثي النعمان بن المنذر بن ماء السَّماء، وكان سبب زوال ملكه فيما بلغنا أنَّه قتل عدي بن زيد العبادي، وكان النعمان قد ضمَّ زيد بن عدي إلى بعض أصحاب كسرَى، فنشأ زيد ولم يزل يتوصل إلى كسرَى حتَّى استكتبه فقال زيد لكسرى: لم يبق على الملك إلاَّ أن يتزوج إلى العرب فقال لكسرى وهل يأتي على ذلك أحد؟ فقال: أيها الملك إن العرب يشقّ عليها أن يتزوج إليها غير عربي، ولكن النعمان عاملك، فلو كتبت إليه في ذلك. فكتب إليه، فكتب النعمان يدعو الملك للزواج من بنات عمّه اللاتي كأنّهنّ المها ويخطب....... فقال كسرى لزيد: ما يقول النعمان؟ فقال: يقول على الملك ببنات عمه اللاتي يتشبهن بالبقر، وأوهمه أن هذا على جهة العيب والبغيضة. فغضب كسرى، وكتب إليه يأمره بالقدوم عليه. فجزع النعمان من ذلك، وخاف أن يكون إشخاصه إيَّاه لمكروه يريده به، فجمع أقاربه وعشائره وشاورهم في أمره فقال له ذوو الرأي منهم: لا طاقة له بمغالبته وعصيانه ونحن بين يديك، فأجمع على الشخوص إليه. فلمَّا كان بساباط تلقَّاه زيد بن عدي. فقال له: انجُ نُعيم. يصغره بذلك ويحقّره. فقال له: أنت تقول هذا يا زيد، والله لئن رجعتُ لألحقنَّك بأبيك، فقال: انجُ نعيم فوالله لقد ضربت لك أُخيةً لا يقطعها إلاَّ المهر الأرن، فسار حتَّى أتَى كسرى، فوجه به إلى خانقين فيقال انه لم يزل محبوساً حتَّى هلك. ويقال أنَّه كان في محبسه يسأل زيداً الصفح عن جرمه والسعي في تخليصه فيقول صار فلم يرجع، فإمّا أن يردَّه وإمَّا أن يلحق به، ففي أمر النعم يقول زهير:
أراني إذا ما شئتُ لاقيتُ آيةً ... تُذكِّرني بعضَ الَّذي كنتُ ناسيا
ألم تَرَ للنعمان كانَ بنجوةٍ ... من الشَّرِّ لو أنَّ أمراً كانَ ناجيا
فغيَّر عنه مُلكَ عشرين حجّةً ... من الدَّهر يوماً واحداً كانَ عاديا
فلم أَرَ مَسلوباً له مثلُ ملكِهِ ... أقلَّ صديقاً كافياً ومُواسيا
رأيتهُمُ لم يُشركوا بنُفوسِهم ... مَنيَّتَه لمَّا رأوا أنّها هيا
سوى أنَّ حيّاً من رَوَاحَةَ حافظوا ... وكانوا زماناً يكرهونَ المُجازيا
فقالَ لهم خيراً وأثنَى عليهُمُ ... وودَّعهم توديعَ أن لا تلاقيا
وقال الذبياني:
لا يهنئِ النَّاس ما يرْعَوْنَ من كَلأٍ ... وما يسوقونَ من أهلٍ ومن مالِ
بعدَ ابن عاتكة الثَّاوي ببلقعةٍ ... أمسى ببلدةٍ لا عمٍّ ولا خالِ
حسبُ الخليلينِ نأيُ الأرض بينهُما ... هذا عليها وهذا تحتها بالِ
وقال رجل من طي:
لعمري لقد أردوك غيرَ مُؤمّل ... ولا مُعْلق بابَ السَّماحةِ بالعذرِ
سأبكيك لا مستبقياً فيضَ عبرةٍ ... ولا طالباً بالصَّبر عاقبةَ الصَّبرِ
وقال آخر: