ولأميَّة بن أبي الصلت خاصة ليس لغيره من الشعراء عامة، وإن في تبيّنه الله عزّ وجلّ ما نبّهه عليه وتعريفه إيَّاه ما عرفه من عظمته، ودلَّه عليه من قدرته، ثمَّ في خذلانه له عن الانقياد إلى طاعته، والرجوع إلى شريعته، لدليلاً بيناً على أنَّه ليس لمخلوق مع الخالق أمر ولا اختيار، جلَّ الله عمَّا يقول الملحدون إن في شعر أمية طعناً على الدين من قِبل أنَّه مواطن لبعض ما في القرآن، وموافق لكثير ممَّا في شريعة الإسلام. قالوا: فهذا يدلّ على أن القرآن منه أجدر. ومن معانيه استخرج الله عز وجل تعالى عن قولهم علواً كبيراً. ولو ساعدهم التوفيق على فهم ما اعتقدوه، بل لو صَدَفهم الحياء عن قبح ما انتحلوه، ولاستحيَوا عن ذكر ما ذكر أمية بن أبي الصلت، وإن كان جاهلياً فقد أدرك الإسلام، ومدح النبي - صلى الله عليه - وذلك موجود في شعره، ومفهوم عند أهل الخبرة به. وكيف يتوهم لبيب أوْ يستخبر لبيب أن يهجر عليه عقله أو يحمل نفسه بدعوى ما يتهيأ تكذيبه فيه بأهون السعي من مخالفته، أم كيف يظن بالنبي - صلى الله عليه - أنَّه يأخذ المعاني من أمية وأمية يشهدُ بتصديقه، ويقرُّ بكتابه، ويعزل نفسه عن التأخر بالدخول في ملته، وذلك موجود فيما ذكرناه من شعره وما لم نذكره.
وسنذكر بعض ما مدح به أمية النبي - صلى الله عليه - في بابه إن شاء الله ولا قوَّة إلاَّ بالله. الباب الثاني والخمسون
ما مدح به أمية النبي
صلى الله عليه وسلّم وما استشهد وأنشد بين يديه
حدَّثنا أحمد بن عبيد بن ناصح قال: حدَّثنا علي بن محمد المدائني قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله بن أخي الزهري بن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة عن سعد بن أبي وقاص قال: قدم وفد ربيعة على رسول الله - صلى الله عليه وسلّم - فسألهم عن قس بن ساعدة الإيادي وكان نازلاً فيهم: ما فعل؟ فقالوا: هلك يا رسول الله، فقال: والله لقد رأيته يوماً بعكاظ وهو على جمل له أحمر وهو يخطب النَّاس وهو يقول: أيُّها النَّاس اجتمعوا واسمعوا واسمعوا وعوا: من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آتٍ آت، ما لي أرى النَّاس يذهبون فلا يرجعون، أرَضُوا بالإقامة فأقاموا، أم تركوا فناموا، إنَّ في السَّماء لخبراً، وإنَّ في الأرض لعبراً، ليل موضوع، وسقف مرفوع، وبحار لا تفور، ونجوم تمور، ثمَّ بحور، أقسم قس قسماً بالله وما أتمَّ، إنَّ لله ديناً هو أرضى من دينٍ نحن عليه، ثمَّ تكلَّم بأبيات شعر ما أدري ما هي؟ فقال أبو بكر: أنا شاهد ذلك يا نبي الله فقال: أنشدها، فأنشأ أبو بكر - رضي الله عنه - يقول:
في الذَّاهبين الأوَّلين ... من القرونِ لنا بَصائر
لما رأيت موارداً ... للموتِ ليسَ لها مصادر
ورأيت قومي نحوَها ... يسعى الأكابرُ والأصاغر
لا يرجعُ الماضي إليك ... ولا من الباقين غابر
أيقنتُ أنِّي لا محالة ... حيثُ صارَ القومُ صائر
وروي أن النبي صلى الله عليه وسلّم كان يقول لعائشة: " يا حميراء ما فعلت أبياتك "؟ قالت: فكنت أقول: يا رسول الله قال الشاعر:
ارفع ضعيفك لا يحلْ بك ضَعفهُ ... يوماً فتدركه العواقب قد نمَا
يجزيك أوْ يثني عليك وإن من ... أثنَى عليك بما فعلت فقد جزَا
قال: وكان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقول: نعم يا عائشة إذا جمع الله الخلائق يوم القيامة قال لعبد من عبيده: " عبدي صنع إليك معروفاً فهل شكرته؟ فيقول: يا ربِّ علمت أنَّه منك فشكرت لك، فيقول: لِمَ تشكرني إذا لم تشكر من أجريتُ ذلك علي يديه ".
ومع هذه الأبيات:
إنَّ الكريم إذا أردت وصاله ... لم تلف حبلي واهياً رثَّ القُوى
أرعَى أمانتَهُ وأحفظُ عهده ... جهدي فيأتي بعد ذلك ما أتَى
وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلّم - أنشدته عائشة الأربعة الأبيات فقال: قال لي جبريل - عليه السلام -: من آويته خيراً فذلك فقد كافى.
وروي في بعض الأخبار أن ضرار بن الأزور الأسدي أتى رسول الله صلى الله عليه وسلّم فأسلم وقال:
تركتُ الخمورَ وضربَ القداح ... واللَّهو تضربه وابتهالا
وكزي المخبر في عمره ... وشدّي عن المشركين القتالا
فيا ربّ لا أعتبر صفقتي ... فقد بعتُ أهلي ومالي بدالا