ونحن الآن إن شاء الله وقد أتينا على الخمسين الماضية من الأبواب مبتدئون في الخمسين الباقية من الكتاب فأوَّل ما نشرع فيه من ذلك ما قيل في تعظيم أمر الله عزَّ وجلَّ والتَّنبيه على قدرته والدلالة على آلائه والتَّحذير من سطوته ثمَّ تعقب ذلك ما قيل في رسوله صلى الله عليه وسلّم ثمَّ نتبع ذلك ما قيل في المختارين من أهل بيته رحمة الله عليهم وصلواته ثمَّ ننسِّق إلى آخرها على أحقّ التَّرتيب بها حسب ما تبلغه أفهامنا ويومي إليه اختيارنا وإنَّما قدَّمت أبواب الغزل منها دِيناً ودنيا وممَّا هو أدعى إلى مصالح النَّفس وأدخل في باب التَّقوى لأن مذهب الشُّعراء أن تجعل التَّشبيب في صدر كلامها مقدّمة لما تحاوله في خطابها حتَّى أنَّ الشِّعر الَّذي لا تشبيب له ليلقَّب بالحصا وتسمَّى القصيدة منه البتراء وإنَّ قائلها ليخرج عند أهل العلم بالأشعار عند عمل يدخل فيه الموصوفون بالاقتدار والمنسوبون إلى حسن الاختيار فأحببت أن لا أخرج في تأليف الشِّعر عن مذهب الشُّعراء دليلاً عمَّا ضمنت من رعاية حقوق المشاكلة ولم يصلح إذا انقضى ذكر التَّشبيب بالغزل أن أُقدم على أمر الله عزَّ وجلَّ أمراً ولا أرسم بين يديَّ الأشعار الدَّالَّة على عظمته شِعراً ولم أجد أحداً من الشُّعراء اتَّسع في هذا النَّحو اتّساع أُميَّة بن أبي الصَّلت على أنَّه لم يسلم فيعظم الإسلام في قلبه ما لا تعظمه إقامته على كفره وأشعار أهل الجاهليَّة في هذا المعنى وما كان شكله أولى أن يقدَّم من أشعار الإسلاميين لا لسبقهم في الزَّمان ولا لتقدُّمهم في الأسنان ولكن لأنَّ إقرار الخصم بدعوى خصمه أقطع للجدل من ادِّعاء المرء حقّاً لنفسه وإن أقام البيّنة بصحّة قوله ونحن نقدِّم إن شاء الله ولا قوَّة إلاَّ بالله ما نختاره من شعر أُميَّة وأصحابه والدَّاخلين معه في بابه وإن لم يبلغوه فقد رموا غرضه فقاربوه.
يتلوه الباب الحادي والخمسون ذكر ما قاله أُميَّة ونظراؤه في تعظيم أمر الله جلَّ ثناؤه والحمد لله ربِّ العالمين والصَّلاة على رسوله محمَّدٍ وآله أجمعين.
بلغ هذا الكتاب المبارك تصحيحاً ومقابلةً مع نسخة أصله على حسب الجهد والطَّاقة فصحَّ ووافق في ذي قعدة سنة ثمان عشرة وسبع مائة من الهجرة النَّبويَّة.
كُتب مقابلةً مع المملوك محمد بن أبي المقاتل أحمد بن فهد بن أبي الفداء إسماعيل بن إبراهيم الحمى أيَّده الله تعالى.
الباب الحادي والخمسون ذكر
ما قاله أمية ونظراؤه في تعظيم الله جل شأنه
وقال أمية بن أبي الصلت:
ألا كل شيءٍ هالك غيرَ ربّنا ... ولله ميراث الَّذي كانَ فانيا
وإن يكُ شيئاً خالداً ومُعمراً ... تأمل تجدْ من فوقه الله باقيا
له ما رأت عين البصير وفوقه ... سماء الإله فوق ست ثمانيا
إلى أن يفوت المرء رحمة ربّه ... ولو كانَ تحت الأرض سبعين واديا
وقال أيضاً:
ويوم موعدهم أن يخرجوا زمراً ... يوم التغابُن إذْ لا ينفع الحذرُ
وحوسبوا بالذي لم يحصه أحدٌ ... منهم وفي مثل ذاك اليومِ مُعتبرُ
فمنهم فرحٌ راضٍ بمبعثه ... وآخرون عَصوا مأواهمُ سَقَرُ
يقول خزَّانها ما كانَ غيكم ... ألم يكن جاءكم من ربّكم نُذُرُ
قالوا بلَى فأطعنا سادةً بَطروا ... وغرّنا طول هذا العيش والعمرُ
فذاك محبسهم لا يبرحون به ... طول المقام وإن ضجّوا وإن صبروا
قالَ امكثوا في عذاب النَّار ما لكمُ ... إلاَّ السَّلاسل والأغلال والسُّقُرُ
وآخرون علَى الأعرافِ قد طمعوا ... بجنَّةٍ حفّها الرُّمَّان والخضُرُ
يُسقَون فيها بكأسٍ لذّة أُنف ... صفراء لا...... فيها ولا سكرُ
مزاجها سلسبيلٌ ماؤها غدقٌ ... عذب المذاقةِ لا ملحٌ ولا كدرُ
كائن خلت فيهم من أمَّةٍ ظلمت ... قد كانَ جاءهم من قبلهم نُذرُ
فأهلكوا بعذاب خصّ دابرهم ... فما استطاعوا له صرفاً ولا انتصروا
فصدِّقوا بلقاءِ الله ربّكم ... ولا يصُدنكم عن ذكرِهِ البَطَرُ
وقال أيضاً:
لك الحمد والنعماء والفضل ربّنا ... فلا شيءَ أعلَى منك جَدّاً ولا مجدُ
مليك علَى عرش السَّماء مهيمنٌ ... لعزّته تعنو الوجوه وتسجدُ