فغنَّته فقال له قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فما استتمَّ شربه حتَّى وثب فصعد على قبَّة لسليمان فرمى بنفسه على دماغه فقال سليمان إنَّا لله وإنَّا إليه راجعون أتراه الأحمق الجاهل ظنَّ أنِّي أُخرج الجارية إليه وأردُّها إلى ملكي يا غلمان خذوا بيدها فانطلقوا بها إلى أهله إن كان له أهل وإلا فبيعوها وتصدَّقوا عنه فلمَّا انطلقوا بها نظرت إلى حفرة في دار سليمان قد أُعدَّت للمطر فجذبت نفسها من أيديهم وأنشأت تقول:
مَنْ ماتَ عشقاً فليمتْ هكذا ... لا خيرَ في الحبِّ بلا موتِ
وزجَّت بنفسها على دماغها فماتت فسُري عن محمَّد وأحسن صلتي وذكر لنا أنَّ محمَّداً بن حميد الطُّوسي كان جالساً مع ندمانه يوماً فغنَّت جارية له وراء السِّتارة:
يا قمرَ القصرِ متى تطلعُ ... أشقَى وغيرِي بكَ مُستمتعُ
إنْ كانَ ربِّي قدْ قضَى كلَّ ذا ... منكَ علَى رأْسِي فما أصنعُ
قال وعلى رأس محمَّد غلام بيده قدح يسقيه فرمى بالقدح من يده وقال تصنعين هكذا ورمى بنفسه من الدَّار إلى الدِّجلة فهتكت الجارية السِّتارة ثمَّ رمت بنفسها على أثره فنزل الغاصة خلفها فلم يجدوا واحداً منهما فقطع محمَّد الشُّرب وقام من مجلسه وأخبار هذا الباب أكثر من أن يتضمَّنها مثل هذا الكتاب غير أنَّا اقتصرنا منها على ما يكون معه مضربين عنها ولا مكترثين بها ولقد كادت شهرتها له لتمنعنا عن ذكرها غير أنَّها كانت شاهداً لما قدَّمناه وأحببنا أن يؤيّد بذكرها على ما شرطناه. الباب التاسع والأربعون
لا يُعرف المقيمُ علَى العهدِ إلاَّ عندَ فراقٍ أو صدٍّ
من شأن من كان مجاوراً لأحبَّائه وسامحته الأيَّام ببلوغ محابّه أن يصرف خواطره إليهم وان لا يؤثر صحبة أحد غيرهم عليهم بل الجاري من عادة أهل الأدب إذا أقبل عليهم يستثقلون أن يظهروا له المودَّة بل يعتقدونها في الحقيقة فإذا كانت هذه حال أهل الأدب مع من يعاشرهم من غير الأحباب كان أحبابهم أحرى أن يغلبوا على قلوبهم وإنَّما يبين الصَّادق في هواه إذا فارقه أو صدَّ عنه من يهواه فأقام حينئذ عليه ولم ينتقل إلى ما سواه.
أنشدني أحمد بن يحيى النحوي لعمر بن أبي ربيعة:
يقولونَ إنِّي لستُ أصدقُ في الهوَى ... وإنِّي لا أرعاكَ حينَ أغيبُ
فما بالُ طرفِي عفَّ عمَّا تساقطتْ ... لهُ أنفسٌ مِنْ معشرٍ وقلوبُ
عشيَّةَ لا يستنكرُ القومُ إنْ رأوْا ... سفاهَ الحِجى ممَّنْ يُقالُ لبيبُ
ولا نظرةً مِنْ عاشقٍ إنْ مضتْ لهُ ... بعينِ الصِّبى كسلَى القيامِ لعوبُ
يُروِّحُ يرجُو أنْ تحطَّ ذنوبهُ ... فراحَ وقدْ عادتْ عليهِ ذنوبُ
وما الشَّكُّ أسلانِي ولكنْ لذِي الهوَى ... علَى العينِ منِّي في الفؤادِ رقيبُ
ولقد أحسن ذو الرمة حيث يقول:
إذا غيَّرَ النَّأيُ المحبِّينَ لم أجدْ ... رسيسَ الهوَى مِنْ حبِّ ميَّةَ يبرحُ
تصرَّفُ أهواءُ القلوبِ ولا أرَى ... نصيبكِ مِنْ قلبِي لغيركِ يُمنحُ
أرَى الحبَّ بالهجرانِ يُمحَى فيمتَحِي ... وحبّكِ ممَّا يستجدُّ ويذبحُ
أبِينُ وشكوَى بالنَّهارِ شديدةٌ ... عليَّ وما يأتِي بهِ اللَّيلُ أبرحُ
هيَ البرءُ والأسقامُ والهمُّ ذكرُها ... وموتُ الهوَى لولا التَّنائِي المبرّحُ
إذا قلتُ تدنُو ميَّةُ اغبرَّ دونَها ... فيافٍ لطرفِ العينِ فيهنَّ مطرحُ
فلا القربُ يُبدي مِنْ هواهَا ملالةً ... ولا حبُّها إنْ تنزحِ الدَّارُ ينزحُ
وقال أيضاً
هواكِ الَّذي ينهاضُ بعدَ اندِمالهِ ... كما هاضَ حادٍ متعبٌ صاحبَ الكسرِ
إذا قلتُ قدْ ودَّعتهُ رجعتْ بهِ ... شجونٌ وأذكارٌ تردَّدُ في الصَّدرِ
وإنْ قلتُ يسلُو حبَّ ميَّةَ قلبهُ ... أبَى حبُّها إلاَّ بقاءً علَى الهجرِ
وقال أيضاً
يزيدُ التَّنائِي وصلَ خرقاءَ جدَّةً ... إذا خانَ أرماثَ الحبالِ وصولُها
لقدْ أُشربتْ نفسِي لميٍّ مودَّةً ... تقضَّى اللَّيالي وهيَ باقٍ وسيلُها
وقال أيضاً
فلمْ يبقَ ممَّا كانَ بيني وبينَها ... منَ الوصلِ إلاَّ ما تجنُّ الجوانحُ