أظنُّ اليومَ آخرَ عهدِ نجدٍ ... ألا فاقرأ علَى نجدٍ سلاما
فربَّتَما سكنتَ بحرِّ نجدٍ ... وربَّتَما ركبتَ بها السَّواما
وربَّتَما رأيتَ لأهلِ نجدٍ ... علَى العلاَّتِ أخلاقاً كراما
وإنِّي للمكلَّفُ حبَّ نجدٍ ... وإنِّي للمسرُّ بها السَّقاما
فهؤلاء الذين ذكروا أشعارهم قد سلوا على أوَّل روعات اليأس فمنهم من تشاغل بإظهار الحنين تجمّلاً للنَّاس ومنهم من صرَّح بالسّلوِّ عن نفسه ومنهم من اشتغل بمعالجة ما بقي من الهوَى في قلبه ونحن الآن نذكر طرفاً من أخبار من تمكَّنت الرَّوعة الأولى من نفسه وتظاهر سلطانه على قلبه فبلغ إلى ما لا يمكن منه تلافٍ ولا ينفع فيه استعطاف حدَّثني أبو طاهر الدمشقي قال حدثنا حامد بن يحيى النَّجليّ قال حدثنا سفيان قال حدثنا عبد الملك بن نوفل بن مساحق عن رجل من مُزينة يقال له ابن عاصم عن أبيه قال بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم في سريَّة وقال إن رأيتم مسجداً أو سمعتم مؤذّناً فلا تقتلوا أحداً وإنَّا قد لقينا قوماً فأسرناهم ورأى نسوة وهو في ذمَّته فدنا إلى هؤلاء أفض إليهنَّ فدنَا إلى امرأة منهنَّ فقال أسلمي حُبيش قبل نفاذ العيش.
أرأيتِ إذ طالبتكمْ فوجدتمُ ... بحَليةَ أوْ ألفيتكمْ بالخوانقِ
ألمْ يكُ حقّاً أنْ ينوَّلَ عاشقٌ ... تكلَّفَ إدلاجَ السُّرى والودائقِ
فلا ذنبَ لِي قدْ قلتُ إذ أهلُنا معاً ... أثِيبي بودٍّ قبلَ إحدَى الصَّفائقِ
أثِيبي بودٍّ قبلَ أنْ تشحطَ النَّوى ... وينأَى الأميرُ بالحبيبِ المفارقِ
قال فقالت وأنت فحييت عشراً وتسعاً وترَا وثمانياً تترَا قال ثمَّ قدَّمناه فضربنا عنقه فنزلت إليه امرأة تخصُّه فأكبَّت عليه فما زالت تحنُّ عليه حتَّى ماتت وقال الجاحظ ذُكرت لأمير المؤمنين المتوكّل لتأديب بعض ولده فلمَّا رآني استشبع منظري فأمر لي بعشرة آلاف وصرفني فخرجت من عنده فلقيت محمَّد بن إبراهيم وهو يريد الانحدار إلى مدينة السَّلام فعرض عليَّ الخروج معه وقرَّب حرَّاقته ونصب ستارته وأمر بالغناء فاندفعتْ عوَّادة له فغنَّت:
كلَّ يومٍ قطيعةٌ وعتابُ ... ينقضِي دهرُنا ونحنُ غِضابُ
ليتَ شِعري أنا خُصصتُ بهذا ... دونَ ذا الخلقِ أمْ كذا الأحبابُ
ثمَّ سكتت وأمر طُنبوريَّة فغنَّت:
وا رحمَتَا للعاشِقينا ... ما إنْ أرَى لهمُ مُعينا
كمْ يهجرونَ ويُضربونَ ... ويُقطعونَ فيصبِرُونا
فقالت لها العوَّادة فيصنعون ماذا؟ قالت ويصنعون هكذا وضربت بيدها إلى السّتارة فهتكتها وبرزت كأنَّها فلقة قمر فزجَّت نفسها إلى الماء قال وعلى رأس محمَّد غلام يضاهيها في الجَمال وبيده مِذبَّة فلمَّا رأَى ما صنعت ألقى المذبَّة من يده وأتى الموضع فنظر إليها وهي تمرُّ بين الماء فأنشأ يقول:
أنتَ الَّتي غرَّقْتِني ... بعدَ القضَا لوْ تعلَمينا
وزجَّ بنفسه في أثرها فأدار الملاَّح الحرَّاقة فإذا بهما معتنقان ثمَّ غاصا فلم يُريا فهال ذلك محمداً واستفظعه وقال لي أبا عمرو ولتحدّثني بحديث يُسليني عن فعل هذين وإلا ألحقتك بهما قال فحضرني خبر سليمان بن عبد الملك وقد قعد للمظالم وعُرضت عليه القصص فمرَّت به قصَّة فيها إن رأى أمير المؤمنين أعزَّه الله أن يُخرج إليَّ جاريته فلانة حتَّى تغنِّيني ثلاثة أصوات فعل فاغتاظ سليمان وأمر من يخرج إليه فيأتيه برأسه واسترجع وأتبع الرسول برسول آخر يأمره أن يدخل إليه فلمّا وقف بين يديه قال له ما الَّذي حملك على ما صنعت؟ قال الثّقة بحملك والاتّكال على عفوك فأمره بالقعود حتَّى إذا لم يبق من بني أُميَّة أحد إلاَّ خرج فأمر فأُخرجت الجارية ومعها عودها ثمَّ قال قل لها غنِّي فقال لها الفتى غنِّي:
أفاطمَ مهلاً بعضَ هذا التَّدلُّلِ ... وإن كنتِ قدْ أزمعتِ هجري فاجْمِلي
فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:
تألَّقَ البرقُ نجديّاً فقلتُ لهُ ... يا أيُّها البرقُ إنِّي عنكَ مشغولُ
فغنَّته فقال له سليمان قل قال تأمر لي برطل فأُتي برطل فشربه ثمَّ قال له قل قال غنِّي:
حبَّذا رجعُها إليها يدَيْها ... في يدَيْ درعِها تحلُّ الإزارا