ولمْ يُنسِنيها الدَّهرُ إلاَّ وذكرُها ... بحيثُ تحنَّتْ دونَ نفسِي ضلوعُها
وإنْ لم يكنْ منها لنا غيرُ ذكرةٍ ... وقولٍ لعلَّ الدَّهر يوماً يريعُها
فقدْ أحرزتْ منِّي فؤاداً متيَّماً ... وعيناً عليها لا تجفُّ دموعُها
أتنسينَ أيَّامِي وأيَّامكِ الَّتي ... إذا ذكرتْها النَّفسُ كادتْ تذيعُها
وقال آخر:
أُحبِّكِ أصنافاً منَ الحبِّ لم أجدْ ... لها مثلاً في سائرِ النَّاسِ يعرفُ
فمنهنَّ حبٌّ للمحبِّ ورحمةٌ ... لمعرفَتي منهُ بما يتكلَّفُ
ومنهنَّ أنْ لا يخطرَ الدَّهرَ ذكركمْ ... علَى القلبِ إلاَّ كادتِ النَّفسُ تتلفُ
وحبٌّ بدا بالجسمِ واللَّونُ ظاهرٌ ... وحبُّ الَّذي نفسي منَ الرُّوحِ ألطفُ
وحبٌّ هو الدَّاءُ العياءُ بعينهِ ... لهُ ذكرٌ تعدُو عليَّ فأدنفُ
فلا أنا منهُ مستريحٌ فميّتٌ ... ولا هوَ علَى ما قد حييتُ مخفَّفُ
وقال هدبة بن خشرم:
تذكَّرَ حبّاً كانَ في مَيعةِ الصِّبى ... ووجداً بها بعدَ المشيبِ معقَّبا
إذا كادَ ينساها الفؤادُ ذكرتَها ... فيا لكَ قد عنَّى الفؤادَ وعذَّبا
ضنًى مِنْ هواها مُستكنّاً كأنَّهُ ... خليعُ قداحٍ لم يجدْ مُتنشَّبا
بعينيكَ زالَ الحيُّ منها لنيَّةٍ ... قذوفٍ تشوقُ الآلفَ المتطرِّبا
وقدْ طالَما عُلِّقتْ ليلَى معمَّداً ... وليداً إلى أنْ صار رأسكَ أشيبا
رأيتكَ مِنْ ليلَى كذِي الدَّاءِ لم يجدْ ... طبيباً يُداوِي ما بهِ فتطبَّبا
فلمَّا اشتفَى ممَّا بهِ علَّ طبُّهُ ... علَى نفسهِ مِنْ طولِ ما كانَ جرَّبا
وأنشدنا أحمد بن يحيى لذي الرمة:
أيا ميُّ إنَّ الحبَّ حُبَّانِ منهُما ... قديمٌ وحبٌّ حينَ شبَّتْ شبائبهْ
إذا اجتمعا قالَ القديمُ غلبتهُ ... وقالَ الَّذي مِنْ بعدهِ أنا غالبهْ
وأخبرنا أبو العباس عليّ ابن الأعرابي أنَّ ميَّة قالت اللَّهمَّ لا تقضِ بينهما.
وقال بشار:
بكيتُ منَ الدَّاءِ داءِ الهوى ... إليها وأنْ ليسَ لي مُسعدُ
وقد وعدتْ صفَداً في غدٍ ... وقدْ وعدتْ ثمَّ لا تصفِدُ
وإنِّي علَى طولِ إخلافِها ... لأرجُو الوفاءَ ولا أحقدُ
إذا أُخلفَ اليومَ ظنِّي بها ... يكونُ لنا في غدٍ موعدُ
صبرتُ علَى طولِ أيَّامِها ... حفاظاً وصبرُ الفتَى أعوَدُ
وما ضرَّ يومٌ بداءِ الهوَى ... محبّاً إذا ما شفاهُ الغدُ
سوَى شوق عَيني إلى وجهِها ... وإنِّي إذا فارقتْ أكمَدُ
فهؤلاء البائسون قد صيروا على أحبَّتهم إمَّا طائعين وإمَّا كارهين فإن كانوا طائعين فهو أحمدُ ممَّن يتلاعب وينتقل في كل ساعة عن إلفه إلى سواه وإن كانوا كارهين فإنَّ السبب الَّذي اضطرهم إلى المقام على ما يؤلمهم ويمنعهم عن الانتقال إلى ما يختارونه لو لم يكن سبباً أملك بهم منهم ما عليهم فهم على كل الجهات أتمُّ في الحال ممَّن جعل هواه ضرباً من الإشغال ينفرد له إذا نشط ويتركه إذا كسل كالذين قدَّمنا وصفهم في صدر هذا الكتاب من أنَّهم لم يرتقوا في المحبَّة على من انتهى بل صعدوا بأول نظرة إلى ذروتها فكما كان ارتقاؤهم سريعاً كان انحطاطهم قريباً.
فمنهم الوليد بن عبيد الطائي حيث يقول:
نظرةٌ ردَّتِ الهوَى الشَّرقَ غرْبا ... وأمالتْ نهجَ الدُّموعِ الجوارِي
ما ظننتُ الأهواءَ قبلكِ تُمحَى ... مِنْ صدورِ العشَّاقِ محوَ الدِّيارِ
كانَ يحلُو هذا الهوَى فأراهُ ... عادَ مرّاً والسُّكْرُ قبلَ الخمارِ
وإذا ما تنكَّرتْ لي بلادٌ ... أوْ خليلٌ فإنَّني بالخيارِ
وله أيضاً:
أتَى دونَها نأيُ البلادِ ونصُّنا ... سَواهمَ خيلٍ كالأعنَّةِ ضمَّرُ
ولمَّا خطوْنا دجلةَ انصرمَ الهوَى ... فلمْ تبقَ إلاَّ لفتةُ المتذكِّرِ
وخاطرُ شوقٍ ما يزالُ يَهيجُنا ... لبادينَ مِنْ أهلِ الشَّآمِ وحضَّرِ
ولأبي نواس في نحو ذلك:
ألا قلْ لأخلاَّئي ... ومَنْ همتُ بهمْ وجدا
ومَنْ كانُوا مَواليَّ ... ومَنْ كنتُ لهمْ عبْدا
شربْنا ماءَ بغدادَ ... فأنساكمُ جِدَّا