ويرفدْنني نصحاً زعمنَ وإنَّهُ ... لَفي حرجٍ مَنْ لامَني ونَهانِي
وقال آخر:
أترانِي تاركاً باللهِ ... ما أقوَى لِما أهوَى
أنا أشهدُ أنَّ الحبَّ ... مِنْ قلبِي إذنْ دعوَى
وذكروا أنَّ العتبي حبس ابناً له في بيتٍ لمَّا ظهر على أنَّه عاشق ليكون الحبس رادعاً له ففتح الباب عنه بعد مدَّة فوجده قد كتب على الحائط:
أتظنُّ ويحكَ أنَّني أبلَى ... وأُطيعُ في الهوَى عقلا
ومدَّ الحرف الأخير مع استدارة حائط البيت أجمع فلمَّا نظر أبوه إلى ذلك يئس منه فخلَّى سبيله.
وقال آخر:
يلومكَ فيها اللاَّئمونَ نصاحةً ... فليتَ الهوَى باللاَّئمينَ مكانِيا
لَوَ انَّ الهوَى عنْ حبِّ ليلَى أطاعني ... أطعتُ ولكنَّ الهوَى قدْ عصانِيا
وهذا الكلام لا يكون إلاَّ عن حال ضعيفة أو بعقب ضجرةٍ شديدةٍ لأنَّ صاحبه لم يرضَ بالتَّبرُّم من هواه حتَّى ضمَّ إلى ذلك تمنِّي انصراف الحال إلى سواه وأحسن من هذا قولاً وأجمل منه فعلاً الذي يقول:
تشكَّى المحبُّونَ الصَّبابةَ ليتَني ... تحمَّلتُ ما يلقَوْنَ مِنْ بينِهم وحدِي
وكانتْ لنفسِي لذَّةُ الحبِّ كلُّها ... فلمْ يلقَها قبلِي محبٌّ ولا بعدِي
وأحسن مجنون بني عامر حيث يقول:
وقالُوا لوْ تشاءُ سلوتَ عنها ... فقلتُ لهمْ فإنِّي لا أشاءُ
لها حبٌّ تمكَّنَ مِنْ فؤادِي ... فليسَ لهُ وإنْ زُجر انتهاءُ
وقال آخر:
يقولونَ لي اصبرْ وائْتجرْ قلتُ طالَما ... صبرتُ ولكنْ لا أرَى الصَّبرَ ينفعُ
فيا ليتَ أجرِي كانَ قسِّمَ بينهمْ ... ومِنْ دونِيَ الصَّمانُ فالخبتُ أجمعُ
ولبعض أهل هذا العصر:
يُعاتبُني أُناسٌ في التَّصابِي ... بألبابٍ وأفئدةٍ صحاحِ
إذا اختلطَ الظَّلامُ وهمْ سُكارَى ... بكاساتِ الرُّقادِ إلى الصَّباحِ
ولِي سُكرٌ يُجنِّبني رُقادِي ... فما أدرِي الغدوَّ منَ الرَّواحِ
أمَا لي في بلادِ اللهِ بابٌ ... يؤدِّيني إلى سبلِ النَّجاحِ
بلَى في الأرضِ متَّسعٌ عريضٌ ... ولكنْ قدْ مُنعتُ منَ البراحِ
وما يُغنِي العقابَ عيانُ صيدٍ ... إذا كانَ العقابُ بلا جناحِ
الباب السادس والأربعون
مَنْ قدُمَ هواهُ قوِيَ أساهُ
من كان أوَّل ما وقع به من أسباب المحبة استحساناً ثمَّ ينمي على الترتيب الذي وصفناه حالاً فحالاً حتَّى ينتهي إلى بعض الأحوال الصِّعاب التي ذكرناها كان زوالها إن زال بطيئاً ومن عشق بأوَّل النَّظر سلا مع أوَّل الظَّفر فإن لم يظفر بمن يهواه سلا إذا تعذَّر عليه ما يتمنَّاه فإذا وقع الهوى بأوَّل نظر ثمَّ ارتقى صاحبه ارتقاءً بغير ترتيب حتَّى صار مدلَّهاً بمن يهواه قبل أن تطول معاشرته كان بقاء ذلك الهوى يسيراً وهكذا كل شيءٍ في العالم إن اعتبرته وجدت ما ارتقى إلى هذه الغاية القصوى بغير ترتيب انحطَّ انحطاطاً طويلاً ولعمري لقد أحسن الذي يقول:
وما كانَ حُبِّيها لأوَّلِ نظرةٍ ... ولا غمرةً مِنْ صبوةٍ فتجلَّتِ
ولكنَّها الدُّنيا تولَّتْ فما الَّذي ... يُعزِّي عنِ الدُّنيا إذا ما تولَّتِ
وقال الحسين بن وهب في هذا المعنى فأحسن:
أرَى كلَّ يومٍ لوعةً أستجدُّها ... ونفساً يُعنِّيها هواها وجهدُها
وصبوةَ قلبٍ كانَ هولاً بدِيُّها ... فعادتْ علَى الأيَّامِ قدْ جدَّ جدُّها
وقال آخر:
شوقي إليكَ علَى الأيَّامِ يزدادُ ... والقلبُ بعدكَ للأحزانِ مُنقادُ
يا لهفَ نفسِي علَى إلفٍ فُجعتُ بهِ ... كأنَّ أيَّامهُ في الحسنِ أعيادُ
وقال آخر:
وإنِّي وإيَّاها لكالخمرِ والغِنى ... متَى تستطعْ منها الزِّيادةَ تزددِ
إذا ازددتُ منها زدتُ وجداً بقُربها ... فكيفَ احتراسِي مِنْ هوًى متجدِّدِ
وقال كثير:
يلومكَ في ليلَى وعقلكَ عندَها ... رجالٌ ولمْ تذهبْ لهمْ بعقولِ
وما زلتُ مِنْ ليلَى لدُنْ طرَّ شارِبي ... إلى اليومِ كالمُلقَى بكلِّ سبيلِ
وقال بعض الأعراب:
سقَى اللهُ مِنْ حبِّي لهُ كلَّ ليلةٍ ... ويومٍ علَى مرِّ السِّنينَ يزيدُ