وهذا وإن كان مخالفاً لذلك في أنَّه جرب الأدوية على نفسه والتمس الراحة في إلفٍ غير إلفه فإنه موافق للذي يقدمه في التماسه من نحو الجهة الَّتي حدث عنها الدَّاء في رجوع نفسه إلى وطنها وإقبالها بعد الانحراف على سكنها.
وقال عبيد الراعي:
بني ولو نسى قدْ سئمنا جواركمْ ... وما جمعتنا نيَّةٌ قبلها معا
خليلانِ منْ شعبينِ شتَّى تجاورا ... قليلاً وكُنَّا بالتَّفرُّقِ أمتعا
أرى آلَ هندٍ لا يُبالي أميرهمْ ... علَى كبدِ المحزونِ أنْ تقطَّعا
وقال علي بن الجهم:
عيونُ المها بينَ الرّصافةِ والجسرِ ... جلبنَ الهوَى من حيثُ أدري ولا أدري
أعدْنَ لي الشَّوقَ القديمَ ولم أكنْ ... سلوتُ ولكن زِدْنَ جمراً علَى جمرِ
وقُلنَ لنا نحنُ الأهلَّةُ إنَّما ... تُضيءُ لمنْ يسري بليلٍ ولا تقري
فلا نيلَ إلاَّ ما تزوَّدَ ناظرٌ ... ولا وصلَ إلاَّ بالخيالِ الَّذي يسري
وقال آخر:
وقالُوا لها هذا حبيبكِ مُعرضاً ... فقالتْ ألا إعراضهُ أيسرُ الخطبِ
فما هوَ إلاَّ نظرةٌ بتبسمٍ ... فتصطكُّ رِجلاهُ ويسقطَ للجنبِ
وقال أبو صخر الهذلي:
وإنِّي لآتيها وفي النَّفسِ هجرُها ... بَياتاً لأُخرَى الدَّهرَ ما طلعَ الفجرُ
فما هو إلاَّ أنْ أراها فُجاءةً ... فأبهتَ لا عُرفٌ لديَّ ولا نُكرُ
وأنسَى الَّذي قدْ جئتُ كيْما أقولهُ ... كما قدْ تُنسِّي لبَّ شاربِها الخمرُ
وقال آخر:
وكيفَ يحبُّ القلبُ منْ لا يحبُّهُ ... بلَى قدْ تُريدُ النَّفسُ مَنْ لا يُريدُها
وكنتُ إذا ما زرتُ ليلَى بأرضِها ... أرى الأرضَ تُطوَى لي ويدنُو بعيدُها
تحلَّلُ أحقادِي إذا ما لقيتُها ... وتنْمِي بلا جرمٍ عليَّ حقودُها
أما قول تحلَّل أحقادي إذا ما لقيتها فهو كلام صحيح ولو أبدل اسم الحقد بغيرها كان أحسن لأنَّ الحقد لا يتولَّد إلاَّ عن موجدة فتخفى في النفس ويظهر غيرها ويرصد صاحبها بالمكافأة عنها وهذا كلُّه محال بين المتحابين بين باب الجد والهزل جميعاً وقد ذكر الله تعالى جلَّ ثناؤه في باب محبَّته للمؤمنين دليلاً على ما قلناه وذلك قوله عزَّ وجل:) وقالتِ اليهودُ والنَّصارى نحنُ أبناءُ اللهِ وأحبَّاؤهُ قلْ فلمَ يعذِّبكمْ بذنوبكمْ بلْ أنتمْ بشرٌ ممَّن خلقَ يغفرُ لمنْ يشاء ويعذِّبُ مَنْ يشاء (فجعل جلَّ ثناؤه مكافأتهم بالمعاقبة على ذنوبهم دليلاً على تكذيب دعواهم ونحو ذلك قوله تعالى:) قلْ إنْ كنتمْ تحبُّونَ اللهَ فاتَّبعوني يُجيبُكمُ اللهُ ويغفرْ لكمْ ذنوبكمْ (فضمَّ جلَّ وعزَّ الذُّنوب إلى المحبَّة غير أن من أحسن في بيتين وقصَّر في بيت كان محسناً معفيّاً على إساءته وأما قوله وتنمي بلا جرمٍ عليَّ حقودها فتعتورُه معانٍ أحدها أن يكون ضنُّه بودِّها دعاه إلى سوء الظنّ بها فنسبها أنَّها تضمر له حقداً ويمكن أن يكون عرف من خلائقها ما هو مغيَّب عنَّا.
الباب الرابع ليس بلبيبٍ من لم يصف ما به لطبيبٍ
قال أنو شروان لبزرجمهر متى يكون العييُّ بليغاً فقال إذا وصف هوًى أو حبيباً وقيل لبعض أهل هذا العصر متى يكون البليغ عييّاً فقال إذا سئل عمَّا يتمنَّاه أو شكا ما به إلى من يهواه وقال:
ما يعلمُ الله أنِّي مذْ هويتكمُ ... أطيقُ إظهارَ ما ألقاهُ باللَّفظِ
كمْ قدْ تحفَّظتهُ حتَّى إذا نظرتْ ... عينِي إليكِ أزالتْ هَيْبتي حِفظِي
وقال بعض الأدباء في مثل ذلك:
أُفكِّرُ ما أقولُ إذا الْتقينا ... وأُحكمُ دائباً حُججَ المقالِ
فترتعدُ الفرائصُ حينَ تبدُو ... وأنطقُ حينَ أنطقُ بالمحالِ
وقال آخر:
أتيتُ معَ الحدَّاثِ ليلَى فلمْ أقلْ ... وأخليتُ فاستعجمتُ عندَ خلائِي
وجئتُ فلمْ أنطقْ وعدتُ فلمْ أحِرْ ... جواباً كلاَ اليومينِ يومُ عنائِي
فيا عجباً ما أشبهَ اليأْسَ بالغِنَى ... وإنْ لمْ يكونا عندنا بسواءِ
وهذا المعنى الَّذي ذكره ليس بمستنكر قد تمنع المحبّ هيبة المحبوب من النيل الَّذي هو اللُّطف من الشَّكوى محلاً في القلوب ألم تسمع الَّذي يقول:
محبٌّ قالَ مُكتتماً مُناهُ ... وأسعدهُ الحبيبُ علَى هواهُ