ولم يمنعهم بعد الشقة ولا كثرة التكاليف عن الوصول إلى غاياتهم، وقد بدؤوا في تحقيق تلك الغاية ربما في الوقت نفسه التي بلغت فيه الترجمة ذروتها في عهد المأمون، فأول من أرسل بعثة رسمية إلى المشرق لإحضار الكتب القديمة والحديثة هو الأمير عبد الرحمن الأوسط بن الحكم (206- 238 هـ/ 822- 852 م) وهو كما سبقت الإشارة عاصر المأمون لمدة اثني عشر عاما من حكمه، وسبق أن ذكرنا أنه أرسل عباس بن ناصح للبحث عن الكتب فجاءه بعدد منها، كان من بينها كتاب «السند هند» وكان قد ترجم إلى العربية في بغداد.
ولما كان هذا البحث قد تجاوز الحيز المقدر له فلن نستطيع تتبع جهود كل أمراء وخلفاء بني أمية في الأندلس في إحضار الكتب من كل الأقطار وفي كل العلوم، ولذلك سنقصر الحديث تقريبا على أكثرهم حبّا للعلم والعلماء والقراءة، وهو الحكم المستنصر العظيم (350- 366 هـ/ 962- 976 م) الذي يقول عنه أحد الباحثين: إنه كان بمثابة وزير التعليم في عهد والده الناصر [1] . فهو فارس هذا الميدان بدون منازع، وعنه يقول صاعد الأندلسي [2] : «ثم لما مضى صدر من المائة الرابعة انتدب الأمير الحكم المستنصر بالله بن عبد الرحمن الناصر لدين الله، وذلك في أيام أبيه إلى العناية بالعلوم وإيثار أهلها، واستجلب من بغداد ومصر وغيرهما من ديار الشرق عيون التواليف الجليلة والمصنفات الغريبة في العلوم القديمة- يقصد العلوم التي سماها المسلمون علوم الأوائل مثل الطب والهندسة والفلك والرياضيات والكيمياء والفيزياء وغيرها- والحديثة- ويقصد العلوم العربية والإسلامية مثل الفقه والحديث والتفسير وعلوم اللغة العربية وآدابها.. إلخ- وجمع منها في بقية أيام أبيه، ثم في مدة ملكه من بعده ما كاد يضاهي ما جمعته ملوك بني العباس في الأزمان الطويلة، وتهيأ له ذلك لفرط محبته للعلم. وبعد همته في اكتساب الفضائل، وسمو نفسه إلى التشبه بأهل الحكمة من الملوك، فكثر تحرك الناس في زمانه إلى قراءة كتب الأوائل، وتعلم مذهبهم» ا. هـ.
الحق لم نقرأ في التاريخ الإسلامي على امتداده شرقا وغربا أن خليفة أبدى من الاهتمام بجمع الكتب والتعليم بصفة عامة مثل الخليفة الحكم المستنصر، وهو لم يجمع الكتب ليخزنها وإنما تفيض المصادر بالأخبار المتواترة أنه قرأ كثيرا من [1] راجع د. محمد عبد الحميد عيسى- تاريخ التعليم في الأندلس (ص 108) . [2] طبقات الأمم (ص 87) .