ومعارفهم، كما يشهد بذلك كل المنصفين من الأوربيين أنفسهم، ولقد سبق أن اقتبسنا كثيرا من مؤلفاتهم التي ورد ذكرها في هذا البحث، مما يؤيد ما نقول.
لذلك أنشأ الخليفة هارون الرشيد (170- 193 هـ/ 786- 808 م) بيت الحكمة في بغداد ليكون أول مؤسسة علمية أكاديمية تضطلع بهذا الدور في التاريخ، وهو دور الترجمة، وكان أول رئيس لهذه المؤسسة العلمية العظيمة هو يوحنا بن ماسويه، وكان نصراني الديانة سريانيّا، يقول ابن أبي أصيبعة [1] : «قلده الرشيد ترجمة الكتب القديمة، مما وجده بأنقرة وعمورية وسائر بلاد الروم، حين سباها المسلمون، ووضعه أمينا على الترجمة، وخدم هارون الرشيد- والأمين والمأمون، وبقي على ذلك إلى أيام المتوكل» ا. هـ. هل يحتاج هذا الخبر إلى تعليق ولفت الأنظار إلى هذا التسامح الإسلامي من أعظم ملوك الدنيا عندئذ وهم يضعون عالما نصرانيّا على رأس أهم مؤسسة علمية في دولتهم؟!.
وإذا كان الرشيد قد أسس بيت الحكمة فقد بلغت ذروة مجدها وعصرها الذهبي في عهد المأمون، الخليفة العالم، الذي كان يكافئ المترجمين- فوق رواتبهم الرسمية- بوزن الكتاب المترجم ذهبا خالصا، مما جعل المترجمين يبذلون أقصى طاقاتهم في نقل كنوز العلم القديم كله إلى اللغة العربية، وحديثنا عن الترجمة في المشرق المقصود به أن نوضح أن ما قام به العباسيون من ترجمة كان فيه خدمة هائلة للأمويين- بل للإنسانية جمعاء- لأنهم لم يضطروا إلى الترجمة فقد وجدوا كل شيء جاهزا ومعدّا، ففي نهاية عهد المأمون (198- 218 هـ/ 813- 833 م) كان معظم التراث القديم قد ترجم وأصبح يقرأ في اللغة العربية، وهذه خدمة جليلة للعلم بصفة عامة وللأمويين بصفة خاصة، سيما وأن اللغة اليونانية المكتوب بها معظم هذا التراث لم تكن معروفة في الأندلس إلا في أضيق الحدود [2] . ولذلك لم تشهد الأندلس حركة ترجمة كالتي حدثت في بغداد، واكتفوا بهذا وكان فيه الغناء.
ولما كان الأمويون في الأندلس- وبصفة خاصة آخر العظماء منهم، وهو الحكم المستنصر- لا يقلون رغبة عن العباسيين في التعلم والتحضر فقد بذلوا أقصى طاقاتهم في إحضار كل ما كان يؤلف أو يترجم في المشرق، في أي علم من العلوم، [1] عيون الأنباء في طبقات الأطباء (2/ 124) . [2] راجع خوليان ريبيرا- التربية الإسلامية في الأندلس، مرجع سابق (ص 190، 191) .