كانوا يسيطرون عليها من ثراث تلك الأمم، وهو التراث الذي أشدنا أكثر من مرة بدور الأمويين في الحفاظ عليه وصيانته وتركه للعباسيين ليقوموا بترجمته إلى اللغة العربية، غير أن العباسيين لم يقنعوا بما وجدوه على الأرض التي كانوا يسيطرون عليها، والتي تمتد حدودها من المحيط الأطلسي غربا إلى حدود الصين شرقا، وإنما دفعهم النهم العلمي والرغبة الصادقة في بناء صرح حضاري يتناسب مع عظمة الدولة العباسية وثرائها إلى البحث عن زخائر الفكر الإنساني التي لم تكن في متناول أيديهم، وحاولوا الحصول عليها بكل الطرق، وتعددت وسائلهم في الحصول على المخطوطات في مختلف العلوم الأجنبية فأحيانا عن طريق المعاهدات مع أباطرة الدولة البيزنطية، التي كانوا يشترطون فيها تسليمهم كميات من المخطوطات اليونانية [1] أو عن طريق الهدايا.
ويقول صاعد الأندلسي في هذا الصدد [2] : «ثم لما أفضت الخلافة إلى الخليفة السابع منهم عبد الله المأمون ... فأقبل على طلب العلم في مواضعه واستخرجه من معادنه بفضل همته الشريفة، وقوة نفسه الفاضلة، فراسل ملوك الروم، وأتحفهم بالهدايا الخطيرة، وسألهم صلته بما لديهم من كتب الفلاسفة، فبعثوا إليه بما حضرهم من كتب أفلاطون، وأرسطوطاليس، وأبقراط، وجالينوس، وأوقليدس، وبطليموس وغيرهم من الفلاسفة، فاستجاد لها مهرة التراجمة، وكلفهم إحكام ترجمتها، فترجمت له على غاية ما أمكن، ثم حض الناس على قراءتها ورغبهم في تعليمها، فنفقت سوق العلم في زمانه وقامت دولة الحكمة في عصره» ا. هـ. وأحيانا عن طريق البعثات العلمية التي كانوا يرسلونها إلى أراضي تلك الدولة للحصول على المخطوطات، عن طريق الشراء، وكتاب الفهرست لابن النديم زاخر بأخبار تلك البعثات. والكتب التي كانوا يعودون محملين بها.
لقد حصل العباسيون على عدد هائل من المخطوطات، ولم يحصلوا عليه ليحبس في خزائن الكتب، وإنما ليترجم إلى اللغة العربية، ويبعث من جديد، ينقح ويصحح ويضاف إليه جديد من قرائح العلماء وعبقرياتهم، وقدموه للعالم وبصفة خاصة إلى أوربا، التي قامت نهضتها في مطلع العصر الحديث على أساس علوم العرب [1] راجع سيجريد هونكه- شمس العرب تسطع على الغرب، مرجع سابق (ص 175) . [2] طبقات الأمم (ص 64) .