الليث بن سعد وعبد الله بن وهب وعبد الرحمن بن القاسم- وعودتهم إلى بلادهم حيث نشروا المذهب المالكي الذي سيطر على الحياة الفقهية في الأندلس، سيطرة تكاد تكون تامة، وانفرد أتباعه بالمناصب الدينية العليا وبصفة خاصة مناصب القضاء، ونحّى فقهاء المالكية مذهب الأوزاعي الذي كان المذهب الأول والوحيد الذي عرفه أهل الأندلس؛ لأنه شامي، والأمويون يعدون شاميين في ميولهم، فالشام موطنهم ومستقر ملكهم ومجدهم.
لكن المذهب المالكي استطاع أن يسيطر على الحياة الفقهية، ولذلك قصة ينبغي أن تعرف؛ لأنها ذات دلالة على أثر السياسة في العلم وعلى دور الأمويين باعتبارهم أصحاب السلطة في نصرة مذهب على مذهب. فالإمام مالك بن أنس (93/ 197 هـ) [1] المشهور بإمام دار الهجرة، كان الود مفقودا بينه وبين العباسيين، بسبب فتواه الشهيرة التي أفتاها لأهل المدينة عندما سألوه: إن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب- المشهور بالنفس الذكية- يطالبنا ببيعته بالخلافة، ونحن سبق منا بيعة لأبي جعفر المنصور، فأفتاهم فتوى حللتهم من بيعة المنصور حيث قال لهم: «لقد بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين» [2] . وبناء على هذه الفتوى الخطيرة هرع الناس إلى بيعة محمد النفس الذكية؛ لما للإمام مالك من مكانة ومصداقية وهيبة في عيون الناس، وكانت حروب راح ضحيتها عشرات الآلاف من أرواح المسلمين، فالعباسيون لم ينسوا هذا أبدا للإمام وناله منهم أذى كثير.
كل هذا أدى إلى تنافر شديد بين الإمام مالك وبين بني العباس، ويبدو أن ذلك مرتبط بما كان يكنه مالك من ودّ قديم لبني أمية في المشرق، بل تتحدث بعض الدراسات عن ميل مالك إلى الأمويين ومجافاته عن العلويين، يقول الشيخ أمين الخولي [3] : «إنه- الإمام مالك- ليس علويّا في شيء ما، وليس له ميل سياسي نحو هذا الحزب المعارض- الحزب العلوي- المتطرف في عهد الدولتين- الأموية والعباسية- جميعا، وهو لا يقول بتفضيل علي رضي الله عنه حين يتحدث غير مرة عن أفضل [1] ألف الأستاذ أمين الخولي كتابا قيما عن الإمام مالك في سلسلة أعلام العرب تحت (رقم 11) القاهرة، وأعطاه عنوان «مالك تجارب حياة» استقصى فيه أخبار ذلك الإمام الكبير والفقيه الذي قيل عنه: لا يفتى ومالك في المدينة، واشتهر بين الناس بإمام دار الهجرة. [2] راجع القصة بتمامها في ابن الأثير- الكامل في التاريخ (5/ 532) . [3] مالك تجارب حياة (ص 299) .