القيروان التي أصبحت- منذ أسسها القائد الفاتح الكبير عقبة بن نافع (50- 55 هـ/ 670- 674 م) مركزا علميّا كبيرا [1] .
هذه الرحلة التي كان يقوم بها أهل الأندلس كانت آمنة وميسرة إلى حد كبير حسب أسلوب ذلك العصر في السفر والشد والترحال؛ لأن حكام الدول الإسلامية على اختلاف سياساتهم وأوطانهم كانوا يهتمون غاية الاهتمام بتعبيد الطرق التي تربط مكة المكرمة والمدينة المنورة بأطراف العالم الإسلامي، من الأندلس غربا إلى حدود الصين شرقا ومن آسيا الوسطى شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا، بل كان الحكام المسلمون يتبارون ويتنافسون في تمهيد الطرق وتوفير الأمن والراحة للحجاج بإقامة الخانات والفنادق على كل تلك الطرق وكانوا يتقربون إلى شعوبهم بهذا العمل الذي ييسر للمسلمين الوصول إلى بيت الله الحرام في مكة المكرمة ومسجد رسوله- عليه الصلاة والسلام- في المدينة المنورة.
ومما سهل مهمة طلاب العلم من أهل الأندلس إلى المشرق لأداء فريضة الحج والتزود بكل جديد من العلم في شتى الميادين؛ حرية التنقل بين أقطار العالم الإسلامي، فعلى الرغم من الخلافات السياسية بين الأمويين في الأندلس والعباسيين في بغداد المسيطرين على الحجاز- موطن الحرمين الشريفين- فإن العباسيين لم يستطيعوا منع أي إنسان أندلسي من أن يجوب البلاد التي تحت سيطرتهم والالتقاء بالعلماء، حتى في بغداد نفسها، وقضية حرية التنقل تلك وعدم وضع موانع في طريق المسافرين يعد من أهم وسائل ازدهار الحضارة العربية الإسلامية في المشرق والمغرب على السواء.
ولا بأس ونحن نتحدث عن الحج وأثره في جذب أبناء الأندلس إلى المشرق أن نشير إلى واحدة من أبرز البعثات التي جاءت من الأندلس لأداء فريضة الحج ونقلت علما كان له أعظم الأثر في دولة الأمويين في الأندلس وحياة شعبها تلك هي بعثة أو رحلة يحيى بن يحيى الليثي وزملائه إلى الحج، وتتلمذهم على الإمام مالك (93- 179 هـ/ 711- 795 م) وأخذ كتابه «الموطأ» ، ثم لقاؤهم بفقهاء مصر- [1] إذا تصفحنا بعض المصادر التي أرخت لعلماء الأندلس، مثل: ابن الفرضي- تاريخ علماء الأندلس، وابن بشكوال- الصلة، والمقري- نفح الطيب وغيرها، لوجدنا أنه قلما وجد عالم أو طالب علم أندلسي إلا وشد رحاله لأداء فريضة الحج، وقلما حج واحد منهم وعاد دون أن يطوف بمراكز العلم الشرقية يتعلم وينسخ ويعود ينشر علمه في الأندلس ومن هنا انتقل علم المشرق إلى المغرب.