والعلم آنئذ كان موجودا في الشرق، أي على الأرض التي يسيطر عليها العباسيون، الأعداء الألداء للأمويين، والذين كانت علاقاتهم بهم من أسوأ العلاقات.
فالأمويون في الأندلس أقاموا علاقات ودّ وحسن جوار، بل تعاون وتحالف مع كثير من أعدائهم التقليديين السابقين، والنموذج الواضح على ذلك علاقاتهم بالرستميين في المغرب الأوسط- الجزائر الحالية- فدولة الرستميين قامت على أساس المذهب الأباضي وهو أحد مذاهب الخوارج، والعداء بين الأمويين والخوارج من أبرز ظواهر التاريخ الإسلامي، بل إن الخوارج الذين أقاموا دولا في المغرب الإسلامي- الرستميون في تاهرت وبنو مدرار في سجلماسة في جنوب المغرب- جاؤوا إلى هنا فرارا من ملاحقة الأمويين لهم في المشرق.
ومع ذلك وحّد العداء للعباسيين، أو قل: دفع العداء المشترك للعباسيين كلّا من الأمويين في الأندلس والرستميين في المغرب الأوسط إلى التعاون والتحالف في شتى الميادين، وقد يتسع الوقت لإعطاء لمحة عن ذلك التعاون فهو جزء مكمل لإبراز دور الأمويين في سعيهم لنقل الحضارة العربية الإسلامية إلى الأندلس.
لم يكن هناك سبيل إذن لإقامة أي نوع من العلاقات السياسية بين الأمويين والدولة العباسية في المشرق، التي أسقطت دولتهم وقامت ضدهم بحركة إبادة لم ينج منها إلا أفراد قلائل كان منهم عبد الرحمن الداخل مؤسس دولة الأمويين في الأندلس.
العلاقات السياسية لا سبيل إليها، أما العلم وكل مفردات الحضارة العربية الإسلامية التي بدأت في التألق والازدهار في المشرق فلا بد من إحضارها كاملة غير منقوصة، فبذل الأمويون في ذلك كل جهد ممكن، وسلكوا- كما أشرنا قبل قليل- كل الطرق الممكنة، ومنها:
أولا: تسهيل ارتحال أبناء الأندلس إلى المشرق لتحصيل العلوم، والرجوع إلى الأندلس لنشر ذلك العلم بين أهله، ولقد وفرت فريضة الحج فرصة نادرة للارتحال إلى المشرق لأداء تلك الفريضة في مكة المكرمة وزيارة مسجد الرسول صلّى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وقلما جاء عالم أو طالب علم من الأندلس إلى المشرق لأداء تلك الفريضة وعاد إلى بلاده دون أن يطوف بكل أو بعض مراكز العلم في المشرق، سواء في الحجاز أو العراق أو الشام أو مصر، وحتى في شمال إفريقيا، وبصفة خاصة مدينة