أبي وقاص زحفه إلى المدائن- عاصمة الأكاسرة- فدخلها يقود جحافل النصر في مشهد مهيب ونادر من مشاهد التاريخ، فها هو سعد بن أبي وقاص- أحد أبناء الصحراء- يدخل القصر الأبيض فاتحا ويجلس في نفس الإيوان الذي مزّق فيه كسرى أبروز الثاني رسالة النبي صلّى الله عليه وسلم علوّا واستكبارا وقد حقق الله دعوة النبي فمزّق ملكه.
صلى سعد صلاة الشكر لله على هذا الفتح المبين في إيوان كسرى، وتلا قول الله تعالى:
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَالْأَرْضُ وَما كانُوا مُنْظَرِينَ [الدخان: 25- 29] .
أما آخر الأكاسرة الفرس، بل آخر كسرى في التاريخ، وهو يزدجرد الثالث فقد فرّ مذعورا كالفأر- وقد كان قبل شهور فقط يزأر كالأسد- تاركا عاصمة ملكه في قبضة الفاتحين المسلمين. وأما سعد فقد أرسل بشائر النصر والغنائم إلى عمر بن الخطاب في المدينة المنورة، وطلب منه أن يأذن له بمواصلة فتح بلاد فارس ولكن عمر رفض، وقال لسعد: «لوددت أن بين السواد وبين الجبل سدّا لا يخلصون إلينا ولا نخلص إليهم، حسبنا من الريف السواد، إني آثرت سلامة المسلمين على الأنفال» [1] هذا الموقف من الخليفة يدل بوضوح على أن المسلمين ليسوا دعاة حرب، ولم يكن من خططهم نشر الإسلام بالقوة أو الاستيلاء على بلاد الناس بحد السيف والذي يتأمل كلام عمر وتصرفاته يستطيع أن يخرج بانطباع أن الخليفة قد تكونت في ذهنه فكرة محددة، وهي أن يقف بالفتوحات عند حدود العراق والشام، وأن يحاول تنظيم تلك المناطق ويطبق فيها منهج الإسلام والعدل والحرية بكل معانيها، ليدرك الناس أن المسلمين ما جاؤوا ليستولوا على بلادهم، بل جاؤوا ليخلصوهم من الظلم والاستعباد، وإذا تحقق ذلك فإن الناس في البلاد الآخرى المجاورة سوف يأتون من تلقاء أنفسهم، فمن ذا الذي يرفض العدل والمساواة والحرية؟ هذا ما استقر عليه رأي عمر بعد القادسية، ولعله توقع أن الفرس بعد الهزائم المريرة المتلاحقة التي منوا بها على أيدي المسلمين سوف يكفّون عن الحرب ويتركون المسلمين وشأنهم، خصوصا وأن المناطق التي فتحها المسلمون إلى الآن- وهي العراق- مناطق عربية وسكانها عرب، والفرس كانوا أجانب مستعمرين. ولكن ما توقعه عمر بن الخطاب لم يحدث بل حدث عكسه تماما، فقد دأب الفرس- خاصة أهل الأهواز- على التمرد ونقض المعاهدات التي منحها لهم المسلمون، وضمنوا لهم بمقتضاها حرية [1] انظر تاريخ الطبري (4/ 28) .