الشاطئ الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، حمته من هجمات الأساطيل البيزنطية وليس هذا فحسب، بل أصبحت قاعدة انطلقت منها الغزوات البحرية الإسلامية، التي غزت معظم جزر البحر الأبيض المتوسط الغربي.
وكانت قمة الانتصارات فتح جزيرة صقلية بدا من سنة (212 هـ/ 827 م) ، حيث انطلقت الأساطيل من تونس بقيادة الفقيه المشهور أسد بن الفرات. كل هذا لم يكن ممكنا بدون أبناء مصر من المهندسين والعمال المهرة، الذين بذلوا علمهم وخبرتهم بكل إخلاص في بناء الأساطيل الإسلامية في المشرق والمغرب.
والخلاصة: إن العرب بعد أن أتموا فتح الشام تقدموا لفتح مصر؛ وكان ذلك ضرورة لتأمين فتوحاتهم ووجودهم في الشام، وأنهم عندما فتحوها لم ينتزعوها من أهلها، بل الحقيقة أنهم أعادوها إلى أهلها من قبضة الروم، وحرروهم من الظلم والاستعباد، وكان المصريون الذين عاصروا الفتح يعلمون ذلك حق العلم، ولذلك كان تعاونهم مع الفاتحين وتقديم المساعدات لهم من أهم أسباب سرعة الفتح وسهولته، وأن تعاون المصريين مع العرب الفاتحين ضد الروم من الأمور التي أخبر بها النبي صلّى الله عليه وسلم عندما كان أمر فتح مصر في علم الغيب؛ فقد أخرج الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في دلائل النبوة، بسند صحيح، عن أم سلمة، أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم، أوصى عند وفاته، فقال: «الله الله في قبط مصر، فإنكم ستظهرون عليهم، ويكونون لكم عدة وأعوانا في سبيل الله» [1] وفي رواية أخرى: «استوصوا بالقبط خيرا، فإنكم ستجدونهم نعم الأعوان على قتال عدوكم» [2] .
ولقد كان المسلمون عند حسن ظن المصريين بهم، فقد عاملوهم أكرم وأحسن معاملة، ومنحوهم حرية لم ينعموا بها من قبل، وبصفة خاصة حرية العقيدة، فلم يجبروهم على اعتناق الإسلام، ولو كان الإجبار على اعتناق الإسلام واردا لما بقي مسيحي واحد على أرض مصر؛ ويجب أن يعرف الناس أن الفتح الإسلامي شرف لكل أبناء مصر؛ لأن من أسلم منهم أسلم بحريته، ومن بقي مسيحيّا بقي معززا مكرما، مصونة كل حقوقه.
ولم يتدخل المسلمون في شؤون عقيدتهم قط، وقد أشرنا من قبل إلى عودة [1] السيوطي- حسن المحاضرة (1/ 12) ، وابن عبد الحكم- فتوح مصر (ص 14) . [2] المصدران السابقان على نفس الترتيب (1/ 13) ، و (ص 4) .