البطريرك بنيامين من منفاه إلى كرسي كنيسته بأمر الفاتح العظيم عمرو بن العاص، الذي أصبح صديقا حميما لرأس الكنيسة المصرية، وكان يستشيره في كل شؤون مصر المالية والإدارية.
كما قام العرب الفاتحون بحركة إعمار واسعة النطاق على كل أرض مصر، لتعمير ما خربته الحروب الكثيرة التي دارت بين الفرس والروم على أرض مصر، وما خربه الروم أنفسهم انتقاما من أهل مصر، المخالفين لهم في المذهب الديني، حتى الكنائس والأديرة نالتها يد التعمير، كما أدرك المسلمون قيمة وصايا الرسول صلّى الله عليه وسلم بأهل مصر، وشهادته لهم بأنهم «خير أجناد الأرض؛ لأنهم وأزواجهم في رباط إلى يوم القيامة» ؛ فاتخذوا في مصر جندا كثيفا، وجيشا كبيرا مرابطا دفاعا عن أرض الإسلام في مشرقه ومغربه. ودفاع مصر عن الإسلام عقيدة وأرضا وحضارة، حقيقة لا ينكرها إلا جاحد أعمى التعصب بصره وبصيرته.
ولقد استثمر المسلمون كل إمكانات مصر وخبرة أهلها في بناء السفن وأقبل المصريون على العمل في العديد من دور صناعة السفن التي سبق الحديث عنها في القلزم والإسكندرية ورشيد ودمياط وتنيس وجزيرة الروضة، كما لم يترددوا في العمل في موانئ الشام وموانئ المغرب، بكل عزم وإخلاص، لحسن الرعاية وجميل المعاملة التي كانوا يلقونها من الأمراء المسلمين، وقد كان من المسيحيين أنفسهم قادة لبعض هذه القواعد العسكرية، كما سبقت الإشارة.
وكانت النتيجة بروز بحرية إسلامية قوية غاية في القوة، وانتشرت الأساطيل البحرية الإسلامية في شرق وجنوب وغرب البحر الأبيض المتوسط، ولم تصبح الأساطيل الإسلامية ندّا للأساطيل البيزنطية فحسب. بل تفوقت عليها وانتزعت منها السيادة على البحر الأبيض المتوسط، ويعد المؤرخون معركة ذات الصواري، التي دارت بين الأساطيل الإسلامية بقيادة أمير مصر عبد الله بن سعد بن أبي السرح، وعلى شواطئ مصر الغربية سنة (34 هـ/ 655 م) وبين الأساطيل البيزنطية بقيادة الإمبراطور قنسطانز الثاني- يعدون هذه المعركة فاصلة في التاريخ البحري في مطلع العصور الوسطى؛ فقد قررت مصير البحر الأبيض المتوسط لمصلحة المسلمين، ولعدة قرون قادمة [1] ، فالنصر العظيم الذي حققه الأسطول الإسلامي الناشئ على [1] راجع عن هذه المعركة الفاصلة: تاريخ البحرية المصرية- مرجع سابق (ص 286) وما بعدها، ود. إبراهيم العدوي- الأساطيل العربية (ص 36) وما بعدها، ود. حسين مؤنس- تاريخ المسلمين-