والعزة والكرامة؟!.
فعمر بن الخطاب عند ما عارض قادته في الاستمرار في الفتوحات كان يتصرف كرجل دولة مسؤول، يعرف تماما ماذا يريد وماذا يقدر عليه، ولم يكن مرتجلا لسياسته ولا مترددا- حاشا لله- كما تظهره بعض الروايات المتهاوية، مثل رواية استشارته لعمرو بن العاص عن البحر والسؤال عن أحواله، ومثل تردده في فتح مصر من البداية، والقصة الضعيفة التي تقول: إنه أرسل لعمرو بن العاص رسالة، وقال له فيها: إذا وصلك كتابي هذا قبل أن تدخل أرض مصر فارجع ولا تدخلها وإن وصلك وقد دخلت فلا ترجع. وأن عمرو وصله الكتاب قبل أن يصل إلى حدود مصر، ولكنه لرغبته القوية في فتح مصر لم يفتح الكتاب إلا بعد أن تجاوز العريش ودخل في أرض مصر. وأشهد على ذلك لئلا يعاقبه الخليفة على مخالفة أوامره.
هذه الرواية وأمثالها تدخل في باب الحكايات؛ لأن فتح مصر ليس أمرا سهلا حتى يؤخذ بهذه البساطة، بل عملا كبيرا وكان ضرورة عسكرية لتأمين الفتوحات في الشام. وترك مصر في أيدي الروم وقد انسحب إليها بقايا الجيش البيزنطي المنهزم في فلسطين يكون خطرا على المسلمين. ولو لم يفتحوا مصر لكانوا قد ارتكبوا خطأ كبيرا؛ وهم أعقل وأحصف من أن يقعوا في مثل هذا الخطأ الجسيم.
ولذلك فتح مصر تم باتفاق تام بين الخليفة عمر بن الخطاب وقائده العبقري عمرو ابن العاص، بل إن ابن عبد الحكم يروي عن الليث بعد سعد أن عمر بن الخطاب هو الذي أمر عمرو بن العاص بالتوجه إلى مصر لفتحها، وكتب له: «أن اندب الناس إلى السير معك إلى مصر؛ فمن خف معك فسر به» [1] .
وهذه الرواية تتفق مع تفكير عمر بن الخطاب ورؤيته للفتوحات؛ وتتفق أيضا مع سير الأحداث ويقبلها العقل، أما الرواية التي أشرنا إليها منذ قليل؛ فيجب رفضها تماما. وإذا كان علماء الحديث لا يقبلون الحديث الذي يخالف متنه مقررات الشريعة الإسلامية ومقاصدها العليا؛ فنحن بالقياس نرفض روايات التاريخ التي لا تتفق مع العقل والمنطق وسياق الحوادث والنظرة الكلية للأمور.
ملاحظة أخيرة نسجلها ونحن في ختام هذا البحث؛ هي أننا نلفت نظر كل من يتحدث أو يكتب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ أن يأخذ في الاعتبار الظروف التي [1] فتوح مصر (ص 57) .