استدرجوا خالد بن سعيد بن العاص الذي كان قد أمّره أبو بكر على أحد الجيوش أثناء حروب الردة، وأمره أن يعسكر في منطقة تيماء، شمال الحجاز، على طريق الشام، وقال له: لا تقاتل إلا إذا قوتلت، ولكن الروم استدرجوه، وغرروا به واشتبكوا معه، وتظاهروا بالتقهقر أمامه داخل الشام، ثم انقضوا عليه وأوقعوا بجيشه هزيمة منكرة. مما أغضب الخليفة عليه أشد الغضب ولم تكن هذه أول مرة يعتدي فيها الروم على المسلمين، فقد سبق أن اعتدوا على المسلمين في غزوة مؤتة وكادوا يهزمونهم لولا مهارة خالد بن الوليد الذي استطاع أن ينسحب انسحابا مشرفا بقواته، وهذه الاشتباكات الأولى مع الفرس والروم وإن خاضها المسلمون مضطرين وبدون تخطيط مسبق، إلا أنها كانت ذات فائدة كبيرة؛ فقد أظهرت النوايا العدوانية لكل من الفرس والروم ضد المسلمين وجعلت الخليفة يعد ويستعد في الوقت المناسب، لذلك يقول الطبري: إنه رغم غضب أبي بكر من خالد بن سعيد، إلا أنه اهتاج للشام وعناه أمره [1] .
وجهز للشام أربعة جيوش في وقت واحد، جيش تحت قيادة أبي عبيدة بن الجراح، ووجهته حمص في شمال الشام، والثاني تحت قيادة يزيد بن أبي سفيان ووجهته دمشق، في وسط الشام، والثالث تحت قيادة شرحبيل بن حسنة ووجهته الأردن، والرابع تحت قيادة عمرو بن العاص ووجهته فلسطين، وهكذا بدأت الحروب تدور مع الفرس والروم في وقت واحد وكانوا هم البادئين بالعدوان.
رابعا: إن حركة الفتوحات الإسلامية في سرعتها ونجاحها، الباهر ونتائجها العظيمة قد حيرت المؤرخين، خاصة المستشرقين فذهبوا في تفسيرها وتحليل دوافعها مذاهب شتى، وأرجعوا مجمل أسبابها إلى الجوع والقحط الذي دفع العرب إلى الخروج من شبه الجزيرة العربية وغزو البلاد التي غزوها، أي: إن السبب الرئيسي لتلك الفتوحات كان اقتصاديّا من وجهة نظرهم.
وليس هناك قول أبعد عن الحقيقة من هذا القول، لا لأننا نستبعد تماما العامل الاقتصادي؛ ولكن لأن الحقيقة أن هذا العامل كان عاملا ثانويّا، ومعظم الجنود والقادة الذين صنعوا تلك الأمجاد، لم يكونوا يفكرون في بطونهم، كما يدعي بعض المستشرقين، ومن لف لفهم من كتاب العرب، وإنما كانوا يدافعون عن عقيدتهم وعن حرية نشرها، أي: إنهم كانوا يقاتلون لتكون كلمة الله هي العليا، [1] تاريخ الطبري (3/ 389) .