وقد شملت تلك التأثيرات الأحوال الدينية والسياسية واللغوية والفكرية والثقافية والاجتماعية، وهي لا تزال مستمرة وفي زيادة مطردة.
ومن هذه الناحية- ناحية التأثيرات العميقة والمستمرة في العالم- فإن الفتوحات الإسلامية إذا قورنت بحركات فتوحات عسكرية سابقة عليها، كفتوحات الإسكندر الأكبر المقدوني، التي سبقتها بنحو ألف سنة، أو جاءت بعدها، كغزوات المغول التي تلتها بستة قرون تقريبا، فإن هذه المقارنة تظهر عظمة الفتوحات الإسلامية.
أما فتوحات الإسكندر وإمبراطوريته التي شادها في الشرق، فلم يكد يختفي من الحياة حتى تمزقت أوصال تلك الإمبراطورية وأخذت تضمحل شيئا فشيئا إلى أن أصبحت ذكرى من ذكريات التاريخ.
وأما غزوات المغول؛ فإنها في حد ذاتها تقدم أكبر وأقوى البراهين على عظمة الفتوحات الإسلامية وخلودها؛ لأن هذه الغزوة المغولية البربرية التي لم يعرف لها التاريخ مثيلا من قبل في وحشيتها وهمجيتها، والتي دمرت معظم العالم الإسلامي في الشرق بما كان له من حضارة زاهرة، ولم يوقف زحفها المدمر، ويحمي بقية العالم منها سوى الوقفة الباسلة والشجاعة التي وقفها الجيش المصري بقيادة السلطان قطز وقائده الظاهر بيبرس، حين ألحقوا بالمغول أول هزيمة ساحقة تحل بهم منذ ظهورهم في مطلع القرن السابع الهجري/ الثالث عشر الميلادي، وكانت تلك الملحمة الإسلامية الرائعة في عين جالوت في شهر رمضان المبارك (عام 658 هـ- 1260 م) هذه الغزوة المغولية البربرية كان يمكن أن ينساها التاريخ، أو يذكرها ككابوس عابر فظيع ألم بالإنسانية في مسيرتها الطويلة، ومضى إلى سبيله، كان يمكن أن يحدث ذلك لولا أن الله سبحانه وتعالى قد أدرك برحمته الواسعة هذه الجموع الهمجية وهداها، فأسلم أغلب المغول، وطواهم الإسلام تحت جناحه، وأظلهم بحضارته، وحولهم من قوة غاشمة مدمرة إلى قوة خيرة، ومن أعداء مهاجمين إلى أتباع مدافعين ومشاركين في صنع الحضارة الإسلامية وشادوا حضارة ارتبطت باسمهم في الهند وإيران وأفغانستان. وهذه الظاهرة المغولية عكست نظرية ابن خالدون، أو هي ربما الاستثناء الوحيد من تلك النظرية التي ذهب إليها؛ وهي أن المغلوب مولع دائما بتقليد الغالب، فالغالب- وهم المغول- هو الذي قلد المغلوب- وهو هنا المسلمين- بل لم يقلده فقط؛ إنما اعتنق دينه وخضع لسيادته، واستظل بحضارته وأسهم في إثرائها وهذه هي