بل إن التاريخ يحدثنا أن الشعوب التي انضوت تحت الحكم الإسلامي نعمت بنوع من الحرية والعدل والتسامح لم تعرفه طوال تاريخها، وهذه شهادة مؤرخ أوربي لا يمكن أن يتهم بأنه متحيز للإسلام، يقول توماس آرنولد: «أما ولايات الدولة البيزنطية التي سرعان ما استولى عليها المسلمون ببسالتهم فقد وجدت أنها تنعم بحالة من التسامح لم تعرفها طوال قرون كثيرة ... فقد سمح لهم أن يؤدوا شعائر دينهم دون أن يتعرض لهم أحد» [1] .
نظرة الإسلام إذن إلى العلاقات الدولية نظرة إنسانية عالمية، لحمتها المساواة وسداها السلام والعدل. ذكرنا آنفا أن من الأسس التي تقوم عليها مبادئ القانون الدولي العام؛ المعاهدات والاتفاقيات التي تحدد العلاقات بين الدول في حالتي السلم والحرب. وأهم من المعاهدات والمواثيق نفسها الوفاء بها ورعايتها، والالتزام بحدودها؛ لأن معظم الكوارث التي حلّت بالعالم لم تأت في الواقع من ناحية غياب العهود والمواثيق التي تنظم علاقات الدول، ولكن أتت من ناحية نكث ساسة الدول وزعمائها بالمعاهدات ونقضها والتنكر لها إذا تعارضت مع مصالحهم الذاتية [2] . وهنا يبرز لنا الإسلام سامقا وشامخا في رعايته لعهوده ومواثيقه، وحرصه على الوفاء بها حرصا لم يسبق له مثيل في أي تشريع آخر، مهما كان في الوفاء بالعهد من أضرار مادية أو معنوية تعود على المسلمين؛ ذلك لأن الوفاء بالعهد والميثاق، في مجال العلاقات الدولية من وجهة نظر الإسلام ليس مبدأ أخلاقيّا فحسب، بل هو واجب ديني، أي: عبادة يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، ويثاب المسلم على فعله، ويعاقب على تركه؛ فالعهد الذي يرتبط به المسلم مع غيره لا يرتبط به مع الناس فحسب، بل هو مسؤول عنه أمام الله، والله كفيل المسلم، وشهيد على عهوده ومواثيقه والتزاماته تجاه الآخرين. ولقد شدد القرآن الكريم تشديدا بالغا على مبدأ الوفاء بالعهد، وآيات القرآن الكريم التي تشير إلى ذلك أكثر من أن تحصى هنا وعند ما يقول الله تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا [الإسراء: 34] فهو ينبه المسلمين إلى ضرورة الوفاء بالعهد على إطلاقه أيّا كان ومع أيّ كان، وفي جميع الأحوال والظروف. فإذا ارتبط المسلم بعهد وألزم نفسه [1] توماس آرنولد، الدعوة إلى السلام (ص 74) . [2] قبيل اندلاع الحرب العالمية الثانية سنة 1939 م كانت هناك معاهدة عدم اعتداء بين روسيا الشيوعية وآلمانيا النازية، فماذا كان مصير هذه المعاهدة؟