انطلاقا من هذين
المثالين، فإن المعاصي، وإن احتوت على مساخط الرب تعالى إلا أن في تقديرها من
المحاسن ما يجعلها رحمة محضة سواء من ناحية علاقة الإنسان بنفسه أو علاقته بربه أو
علاقته بالمجتمع:
أما من الناحية
النفسية،فإنه بالمعاصي يعرف الإنسان نفسه، وأنها الخطاءة الجاهلة، وأن كل ما فيها
من علم أو عمل أو خير فمن الله منَّ به عليه لا من نفسه.
فنفس كل إنسان تحمل الاستعداد لكل رذيلة، بل
في كل نفس مقالة فرعون:﴿ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى﴾ (النازعـات: 24)،
ولهذا فهم العارفون الربانيون الذين فقهوا عن الله، وفهموا عن الله مراده أن فرعون
الذي أمر موسى بالذهاب إليه:﴿ اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ
طَغَى﴾ (النازعـات:17) لا يراد به فرعون مصر فقط، بل هو كل فرعون يزاحم
الله ربوبيته، وأولهم فرعون النفس التي أبت التسليم لله، ولذلك جاءت المقدمة
القرآنية لقصة فرعون بهذه الآية:﴿نَتْلُو
عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ﴾ (القصص:3)، وجاءت الخاتمة بهذه الآية:﴿
فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ﴾ (الزخرف:56)
ولذلك فإن الله
تعالى ـ كما ابتلى فرعون بموسى u ـ ليبرز عن سريرته،
يبتلي عباده بما يبرز ما في سرائرهم من حقائق.
ولتقريب الرحمة
المنطوية في هذا المعنى نقول: بأن دور المعاصي في تقويم الإنسان وتهذيبه وتطييبه
ليصلح لمعرفة ربه ولدخول جنته هو نفس دور الأعراض التي تصاحب الأمراض من حمى وآلام
وغيرها، فإنها وإن كانت مكروهة في نفسها، إلا أن فيها خيرا عظيما، فلولاها لم
يتعرف الإنسان على مرضه، ولم يسع للعلاج منه، ولذلك، فإن أخطر الأمراض ما تسرب
تسربا خفيا إلى الجسد وصار ينخر فيه إلى أن يستحكم نخره من غير ان يظهر لذلك من
الآلام ما يتناسب مع دوره التهديمي.