أما المثال الأول،
فهو إبليس، فإنه عصى الله تعالى، ولعلها أول معصية تحدث في الكون، وقد أخبر إبليس
عن تأثير تقدير الله في حصول معصيته، كما قال تعالى:﴿ قَالَ
فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ﴾
(لأعراف:16)، وقال تعالى:﴿ قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ
لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ (الحجر:39)،ولم
ينكر الله عليه هذا، فالمعصية من تقدير الله تعالى، وهي من هذا الباب رحمة إلهية.
لكن إبليس انشغل
بكون المعصية مقدرة عن التعامل معها وفق ما يحبه الله ويرضاه، فلذلك عندما سأله
الله تعالى، وهو أعلم به، عن الدافع لمعصيته، فقال تعالى:﴿ يَا
إِبلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ﴾ (الحجر: 32) أجابه
بكبرياء:﴿ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ
حَمَأٍ مَسْنُونٍ﴾ (الحجر: 33)
وكان في إمكان
إبليس بعد ما حاقت به اللعنة أن يقول: اغفر لي وتب علي، ولكن ما تنطوي نفسه
المتكبرة، والتي أبرز كبرياءها أمره بالسجود لآدم u جعلته يطلب شيئا آخر، هو مدد لمعصيته الأولى، جعلته
يقول:﴿ أَرَأَيْتَكَ هَذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً﴾ (الاسراء:
62)
فإبليس، أو طبيعة
إبليس حولت من المعصية إلى شر محض استحق بسببه تلك الآلام.
وبخلافه آدم u، فإن المعصية كانت وسيلة لتبوئه تلك المكانة العظيمة من
الله، ففرق كبير بين آدم الذي يسرح بين الجنان، وآدم الذي هبط إلى الأرض متبتلا
للرحمن، قد انطوى قلبه على كل المشاعر النبيلة نحو ربه.
فآدم u بأكله من الشجرة، وإدراكه حقيقة نفسه الشهوانية أقر بقصوره
وكمال ربه:﴿ فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ
إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾ (البقرة:37)، فكان ذلك الإقرار هو
سبب الرفعة العظيمة التي نالها في جوار الله.