فالبداوة بما تبعثه
من قسوة وغلظة لا تفهم من العلم إلا بما يتناسب مع طبيعتها، فلا تتصور اليد
المقطوعة إلا يدا سارقة، كما قال الأعمش: جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث
أصحابه، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند، فقال الأعرابي:( واللّه إن حديثك ليعجبني،
وإن يدك لتريبني)، فقال زيد:( ما يريبك من يدي إنها الشمال؟)، فقال الأعرابي:(
واللّه ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال!) فقال زيد:( صدق اللّه:﴿ الْأَعْرَابُ
أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ
اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ﴾
وهكذا سائر معاملات
الله مع عباده بمختلف أصنافهم، قال تعالى
عن الذين يعملون السوء بجهالة:﴿ إِنَّمَا
التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ
يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ
عَلِيماً حَكِيماً﴾ (النساء:17)، وقال عن المرجون لأمر الله:﴿
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ
عَلَيْهِمْ_ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (التوبة:106)
وهكذا الأمر في
تدبير الله للأحداث والتواريخ، فهي تواريخ منظمة بحكمة الله لا مجال فيها
للعشوائية أو الصدفة ﴿ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ
إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ (آل
عمران:62)
***
وبناء على هذا، فإن
الغرض من الخلق ـ حسبما ورد في النصوص ـ هو التعرف على الله، كما يشير إلى ذلك
قوله تعالى:﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا
لِيَعْبُدُونِ﴾ (الذريات:56)، فقمة العبادة المعرفة، فالعبادة وسيلة
المعرفة، وثمرتها.
ومثله قوله تعالى
عن الكون:﴿ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا
وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾
(فصلت:11)، فليست الطاعة إلا عبادة، وليست العبادة إلا معرفة.