بعد أن رأيت ما رأيت وسمعت ما سمعت في درك الملحدين
نزلت دركا آخر، علمت من الواعظ أنه الدرك الأسفل الذي تنحدر فيه النفس إلى أبعد
قعر مظلم فيها.. وعلمت منه أنه درك مخصص للمنافقين.. وهو ما يصرح به قوله تعالى
:﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ
لَهُمْ نَصِيرًا (145)﴾ (النساء).. فسألته عنهم، وعن سر كونهم في الدرك
الأسفل من النار، فقال[1]: المنافقون هم الذي يبدون في الظاهر منسوبين إلى الإيمان، بينما هم في
الحقيقة أعداؤه الألداء، يخرجون عداوته في كل قالب.. فلله كم من معقل للإيمان قد
هدموه!؟.. وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخربوه!؟.. وكم من علم له قد طمسوه!؟.. وكم
من لواء له مرفوع قد وضعوه!؟.. وكم ضربوا بمعاول الشبه في أصول غراسه ليقلعوها!؟..
وكم عموا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها!؟
فلا يزال أهل
الحق منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية، ويزعمون أنهم
بذلك مصلحون :﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا
يَشْعُرُونَ (12)﴾ (البقرة).. ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ
اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ
كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32)﴾ (التوبة)
اتفقوا على
مفارقة الوحي، فهم على ترك الإهتداء به مجتمعون :﴿ فَتَقَطَّعُوا
أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)﴾
(المؤمنون)، ﴿ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا..
(112)﴾ (الأنعام)، ولأجل ذلك ﴿.. اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ
مَهْجُورًا (30)﴾ (الفرقان)
[1]
من كلام جميل لابن القيم في وصف المنافقين ذكره في مدارج السالكين في مواضع متفرقة
- بالتصرف الذي ألفناه في هذه السلسلة - وقد أوردناه هنا لكونه جمع أكثر ما ورد
في القرآن الكريم من أوصاف المنافقين ببلاغة وإتقان.. ونحب أن ننبه هنا إلى أن بعض
ما ذكره ابن القيم قد يحمل محامل سيئة بسبب الصراع بين المدارس الإسلامية.. ونحن
لا نريد منه هنا هذه المحامل السيئة، فنحن نعتقد أن الخلاف بين المدارس الإسلامية
خلاف سببه الاجتهاد، ولا علاقة له بالنفاق.