قلت: ولكنك حكيت كلاما عن الصالحين فيه مبالغات
شديدة.
قال عيسى:
صدقت.. وهي مبالغات مقصودة، وهم يعلمونها.
قلت: فكيف
تحل هذا الإشكال؟
قال عيسى: اعلم
– يا بني- أن المطلوب الأقصى في جميع
الأمور والأخلاق: الوسط، إذ خير الأمور أوساطها وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.. وما ذكرناه
عن أولياء الله في فضائل الجوع ربما يومئ إلى أن الإفراط فيه مطلوب.. وليس الأمر
كذلك.
ولكن من
أسرار حكمة الشريعة أن كل ما يطلب الطبع فيه الطرف الأقصى، وكان فيه فساد، جاء
الشرع بالمبالغة في المنع فيه، على وجه يومئ أن المطلوب مضادة ما يقتضيه الطبع
بغاية الإمكان، أما العالم فيدرك أن المقصود الوسط.
قلت: فكيف
تطبق هذا على ما نحن فيه؟
قال عيسى:
تطبيق ذلك على ما نحن فيه يسير، فالشرع الحكيم إذا رأى أن الطبع يطلب غاية الشبع فإنه
يورد له ما يمدح غاية الجوع، حتى يكون الطبع باعثاً والشرع مانعاً فيتقاومان ويحصل
الاعتدال.. وذلك كما أن الشرع بالغ في الثناء على قيام الليل وصيام النهار، ثم لما
علم النبي a من حال بعضهم أنه يصوم الدهر كله ويقوم الليل
كله نهى عنه.
فإذا عرفت
هذا فاعلم أن الأفضل بالإضافة إلى الطبع المعتدل أن يأكل بحيث لا يحس بثقل المعدة
ولا يحس بألم الجوع، بل ينسى بطنه فلا يؤثر فيه الجوع أصلاً، فإن مقصود الأكل بقاء
الحياة وقوة العبادة، وثقل المعدة يمنع من العبادة، وألم الجوع أيضاً يشغل القلب
ويمنع منها.. فالمقصود أن يأكل أكلاً لا يبقى المأكول فيه أثر ليكون متشبهاً
بالملائكة فإنهم مقدسون عن ثقل الطعام وألم الجوع، وغاية الإنسان الاقتداء بهم..
وإذا لم يكن للإنسان خلاص من الشبع والجوع فأبعد الأحوال عن الطرفين الوسط وهو
الاعتدال.