[2]اختلف المفسرون فيمَن هو
المعاتب في الآيات الكريمة من أول سورة عبس على رأيين:
الأول: ما ذكرناه هنا، وهو المشهور
بين عامّة المفسّرين وخاصتهم، وهو أنها نزلت في عبداللّه بن اُم مكتوم، إنّه أتى رسول
اللّهa وهو يناجي عتبة بن ربيعة
وأبا جهل بن هشام والعباس بن عبد المطلب واُبي واُميّة بن خلف يدعوهم إلى اللّه ويرجو
إسلامهم (فإنّ في إسلامهم إسلام جمع من أتباعم، وكذلك توقف عدائهم ومحاربتهم للإسلام
والمسلمين)، فقال: يا رسول الّله، أقرئني وعلمني ممّا علمك اللّه، فجعل يناديه ويكرر
النداء ولا يدري أنّه مشتغل مقبل على غيره، حتى ظهرت الكراهة في وجه رسول اللّه لقطعه
كلامه، وقال في نفسه: يقول هؤلاء الصناديد، إنّما أتباعه العميان والعبيد، فأعرض عنه
وأقبل على القوم الذين يكلمهم، فنزلت الآية.. وكان رسول اللّه a
بعد ذلك يكرمه،
وإذا رآه قال: «مرحباً بمن عاتبني فيه ربّي»، ويقول له: «هل لك من حاجة».استخلفه على
المدينة مرّتين في غزوتين)
الثاني: ما روي عن الإمام الصادق:
«إنّها نزلت في رجل من بني اُميّة، كان عند النّبي، فجاء ابن اُم مكتوم، فلما رآه تقذر
منه وجمع نفسه عبس وأعرض بوجهه عنه، فحكى اللّه سبحانه ذلك، وأنكره عليه»( تفسير مجمع
البيان، ج10، ص437) وقد أيّد المحقق الإسلامي الكبير الشريف المرتضى الرأي الثّاني.
وقد قال ناصر مكارم الشيرازي
عن الرأي الأول: وعلى فرض صحة الرأي الأوّل في شأن النزول، فإنّ فعل النّبيa والحال هذه لا يخرج من كونه (تركاً للأولى)، وهذا ما لا
ينافي العصمة، وللأسباب التالية:
أوّلاً: على فرض صحة ما نسب
إلى النّبي في إعراضه عن الأعمى وإقباله على شخصيات قريش، فإنّه a بفعله ذلك لم يقصد سوى الإسراع
في نشر الإسلام عن هذا الطريق، وتحطيم صف أعدائه.
ثانياً: إنّ العبوس أو الإنبساط
مع الأعمى سواء، لأنّه لا يدرك ذلك، وبالإضافة إلى ذلك فإنّ «عبد اللّه بن اُم مكتوم»
لم يراع آداب المجلس حينها، حيث أنّه قاطع النّبي a مراراً في مجلسه وهو يسمعه يتكلم مع
الآخرين، ولكن بما أنّ اللّه تعالى يهتم بشكل كبير بأمر المؤمنين المستضعفين وضرورة
اللطف معهم واحترامهم فإنّه لم يقبل من رسوله هذا المقدار القليل من الجفاء وعاتبه
من خلال تنبيهه على ضرورة الإعتناء بالمستضعفين ومعاملتهم بكل لطف ومحبّة.
ويمثل هذا السياق دليلاً
على عظمة شأن النّبي a،
فالقرآن المعجز قد حدد لنبيّ الإسلام الصادق الأمين أرفع مستويات المسؤولية، حتى عاتبه
على أقل ترك للأولى (عدم اعتنائه اليسير برجل أعمى)، وهو ما يدلل على أنّ القرآن الكريم
كتاب إلهي وأنّ النّبي a صادق فيه، حيث لو كان الكتاب من عنده (فرضاً) فلا داعي لإستعتاب
نفسه...
ومن مكارم خلقه a ـ كما ورد في الرواية المذكورة
ـ إنّه كان يحترم عبد اللّه بن اُم مكتوم، وكلما رآه تذكر العتاب الرّباني له.
وقد ساقت لنا الآيات حقيقة أساسية في الحياة للعبرة والتربية والإستهداء بها
في صياغة مفاهيمنا وممارستنا، فالرجل الأعمى الفقير المؤمن أفضل من الغني المتنفذ المشرك،
وأنّ الإسلام يحمي المستضعفين ولا يعبأ بالمستكبرين (الأمثل:ج19، ص412)