قال: لا يمكن أن يتحقق المؤمن بمعارف الدين إلا بعد أن يتحقق في هذه
العلوم ويرسخ قدمه فيها.
قلت: قرب لي ذلك بمثال.. فإن عقلي تستعصى عليه الحقائق المجردة.
قال: أرأيت لو أن ملكا من الملوك أراد أن يبين لشخص ما أنه ملك،
فماذا يفعل؟
قلت: لا شك أنه سيأمر بمن يطوف به في أنحاء البلاد ليرى مدى اتساع
مملكة الملك، ومدى خضوعها لملكها.
قال: فنزه عقلك عن شبه التشبيه.. واربط هذا المثل بحقائق الأزل
والأبد.. فإنه لن تعرف أن الله ملك إلا بالطواف في مملكته.. فكلما رسخت معرفتك
بعظم مملكة الله كلما رسخ في نفسك عظم كون الله ملكا.
قلت: صدقت في هذا.. فإني أرى لبعضهم معرفة هزيلة بالكون.. وأرى معها
هزالا في معرفة هؤلاء بالله..
قال: ولهذا قال الله تعالى:﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ
وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ
عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ (فاطر:28)
انظر.. كيف ذكر الله تعالى خشية العلماء بعد ذكره لأصناف المكونات..
فلا يعظم الله حق تعظيمه من لا يعرف المكونات ويبحث فيها ويمتلئ عجبا بما فيها.
قلت: صحيح ذلك.. وليس ذلك خاصا بهذا.. فلا يمكن أن نعرف شاعرا ما لم
ندرس أشعاره، ولا رساما دون أن ندقق في لوحاته، ولا ممثلا دون أن نرى ما أبدعه في
تمثيلياته.. وهكذا فكل شيء يعرف من خلال آثاره.
قال: ولهذا طولبنا بالتعرف على الآثار لنصل إلى المؤثر.. ألم تسمع
قوله تعالى:﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ (الروم:50)؟