ارتبط ببشريته.. لكني في الليل رأيته بصورة أخرى مختلفة تماما..
لقد رأيت بشريته مستغرقة في أنوار جميع الورثة الذين تشرفت برأيتهم.
في تلك الليلة.. تظاهرت بأني نائم لأرقب ماذا يفعل..
رأيته يرفع الغطاء عنه بهدوء، ثم يقوم، ويتوضأ، ويستقبل القبلة
بصلاة خاشعة طويلة.. ثم يرفع يديه بعدها، ويستغرق في مناجاة طويلة..
ثم رأيته يفتح الخزانة، ويلبس ثيابا مهنة بسيطة، فتعجبت من ذلك
كثيرا..
ثم رأيته يخرج.. تبعته ببصري لأرى ماذا يفعل في ذلك الليل المظلم..
فإذا به يحمل قفة، ثم يخرج بها.. ولا يعود إلا بعد فترة.. ثم يعود ليحمل قفة
أخرى.. وهكذا إلى أن عددت سبع مرات، وهو يفعل كل ذلك من غير كلل ولا ملل..
في المرة الأخيرة، وبعد أن خرج تبعته لأرى ماذا يفعل، فإذا به
يدق على بيت من البيوت الفقيرة، ثم يضع القفة بجانب الباب، وينصرف[1].
وقد أثار كل ذلك عجبي.. لكن الأعجب من ذلك كله أنه بعد أن انتهى
من ذلك مع اقتراب بزوغ الفجر، ارتمى في فراشه، ولم ينم إلا قليلا، ثم قام وهو فزع
يقول: هل أدركنا الفجر؟
قلت: لم يؤذن المؤذن بعد.
[1] اقتبسنا هذا المعنى مما ورد في سيرة علي بن الحسين زين
العابدين فقد روي شيبة بن نعامة قال: كان علي بن الحسين يبخل فلما مات وجدوه يقوت
مائة أهل بيت بالمدينة.. وعن محمد بن إسحاق قال: كان ناس من أهل المدينة يعيشون لا
يدرون من أين كان معاشهم. فلما مات علي بن الحسين فقدوا ما كانوا يؤتون به
بالليل.. وعن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين يحمل جراب الخبز على ظهره
بالليل فيتصدق به، ويقول: إن صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل.. وعن عمرو بن ثابت
قال: لما مات علي بن الحسين فغسلوه جعلوا ينظرون إلى آثار سود في ظهره، فقالوا: ما
هذا؟ فقالوا: كان يحمل جرب الدقيق ليلا على ظهره يعطيه فقراء أهل المدينة.. وعن
ابن عائشة قال: قال أني: سمعت أهل المدينة يقولون: ما فقدنا صدقة السر حتى مات علي
بن الحسين.