وسأموت بحسرتي، لأني
أموت، ولم أره، ولم أزدد من معرفته.
قلنا: فحدثنا عن التعاليم التي
غيرتك كل هذا التغير.
قال: بعد أن لقنت كل تلك
التناقضات عن الإنسان.. وبعد أن كاد يصيبني الجنون الذي أصاب أستاذي السابع قررت
قرارا جازما بأنه لا خلاص لي إلا بالموت..
ومع أني أذعت نبأ هذا العزم في
تلك المدينة الممتلئة بالصراع إلا أنه لم يأتني أحد ليثنيني عن عزمي.. بل رأيت
الكل.. حتى أساتذتي.. يأتون إلي، ويباركون هذا القرار، بل ويعتبرونه أصوب قرار
أتخذه في حياتي.. بل إن بعضهم أحضر وسائل التصوير.. وطلب مني ـ مقابل مبلغ من
المال أغراني به ـ أن يأخذ لي صورة وأنا أنتحر على شرط أن أرمي نفسي من شاهق ناطحة
سحاب.. لكني رفضت.. فلم أرد لجسدي أن يتلطخ بتراب تلك المدينة المتعفن.
قلنا: فكيف ظهر لك أن تختار
الجبال والمراعي؟
قال: في ذلك الحين الذي كنت
أبحث فيه عن الموتة الراضية بعد أن يئست من الحياة الراضية رأيت صورة جميلة لطبيعة
بكر لم تغر عليها جحافل الإنسان.. فقلت في نفسي: لن يصلح قبرا لك إلا هذه الأرض..
وتلك المراعي.. وتلك السماء التي لم تتلطخ بعد بمزابل المصانع.
فسرت.. وبقلبي من السرور بالموت
ما لم أجده في لحطة من لحظات حياتي..
لا أنكر أن بعض التردد أصابني
في تلك اللحظة الصعبة التي وقفت فيها بين الحياة والموت.. لكني قهرت ذلك التردد..
وصممت.. ولم يبق بيني وبين الموت إلا نصف خطوة.. لكن يدا لم أكن أنتبه لها أمسكتني
بقوة.. التفت فرأيت ما كنت أبحث عنه..
قلنا: ما رأيت؟
قال: لقد رأيت الإنسان.. لقد
كان ذلك الراعي يمثل الإنسان خير تمثيل.. فلذلك شعرت بانشراح عظيم في صدري.. وشعرت
من حيث لا أدري بأن في الحياة من الجمال والسلام