فرمى الشيخ بنفسه في الفرات بثيابه، وجعل يخبط بيديه طرباً، ويقول: أنا الأرقم، فأخرجوه وقالوا: ما فعلت بنفسك؟ قال: إني أعلم من تأويله ما لا تعلمون.
وقال أحمد بن جعفر: حضر قاضي مكة مأدبة لرجل من الأشراف، فلما قضى الطعام، اندفعت جارية تغني:
إلى خالد، حتى أنخنا بخالد ... فنعم، الفتى يرجى، ونعم المؤمل
قال: فلم يدر القاضي ما يصنع من الطرب، حتى أخذ نعليه، فعلقهما في أذنيه، ثم جثا على ركبتيه، وقال: اهدوني؛ فإني بدنة.
وكتب علي بن الجهم إلى قينة، كان يتعشق بها، ويكلف بها:
خفي الله فيمن قد تبلت فؤاده ... وتيمته دهراً، كأن به سحراً
دعي الهجر لا أسمع به منك، إنما ... سألتك أمراً، ليس يعرى لكم ظهراً
فكتبت إليه: صدقت، جعلت فداك، ليس يعرى لنا ظهراً، ولكنه يملأ منه بطناً.
وحدث العتبي عن أبيه قال: أنشدني أبو وائل:
ما أوجع البين من حبيب ... فكيف إن كان من غريب
يكاد من شوقه فؤادي ... إذا تذكرته يموت
فقال لي أبي: هذا وباء وهذا تاء، قال: لا تنقط أنت شيئاً، قال: فإن البيت الأول مخفوض والثاني مرفوع، قال: أنا أقول: لا تنقط، وهو يشكل.
وجاء أعرابي من شعراء المجانين إلى نصر بن سيار بشعر، فتغزل فيه بمائة بيت، ومدحه ببيتين، فقال له: والله ما تركت قافية لطيفة. ولا معنى إلا شغلت به نسيبك دون مدحك، قال: سأقول غير هذا، فعاد إليه بشعر يقول فيه:
هل تعرف الدار لأم العمر ... رع ذا، وحبر مدحة في نصر
فقال له نصر: لا ذاك، ولا ذا.
وكان بعض الأمراء يستظرف طفيلياً، ويحضره طعامه وشرابه، وكان الطفيلي أكولاً شروباً، فلما رأى الأمير كثرة أكله وشربه اطرحه وجفاه، فكتب إليه الطفيلي:
أقاد لنا كلباً بكلب، ولم يدع ... دماء كلاب المسلمين تضيع
وأهدى بعضهم إلى أمير يوم نيروز عصافير أحياء في طبق، وجعل معها رقعة فيها مكتوب:
عصافير بعثت بها ملاح ... ليضحك، لا لٍيأكلها الأمير
وما أهدى إلى ملك سوائي ... عصافير على طبق تطير
فلما وضع الطبق بين يديه، ورفع عنه الغطاء طارت العصافير، فرفع الرقعة وقرأ الشعر فضحك، وأمر له بجائزة سنية.
ودخل أعرابي الكوفة، فقصد تماراً، فقال له:
رأيتك في النوم أعطيتني ... قواصر من تمرك البارحة
فقلت لصبياننا: أبشروا ... برؤيا رأيت لكم صالحه
فأم العيال وصبيانها ... قلوبهم نحوها طامحه
فقل لي: "نعم"؛ إنها حلوة ... ودع عنك: "لا"؛ إنها مالحه
فدفع إليه قوصرة، وقال له: لا تعد ترى مثل هذه الرؤيا مرة أخرى.
وقال بعضهم: رأيت أعرابياً، يصلي في فصل الشتاء، قاعداً بغير وضوء، وهو يقول:
إليك اعتذاري من صلاتي قاعداً ... على غير ظهر، مومئاً نحو قبلتي
فما لي ببرد الماء يا رب طاقة ... ورجلاي لا تقوى على ثني ركبتي
ولكنني أحصيه يا رب جاهداً ... وأقضيكه إن عشت في فصل صيفتي
فإن أنا لم أصنع، فأنت مسلط ... بما شئت من لطمي ومن نتف لحيتي
وقال الأصمعي: رأيت بالبادية أعرابياً، قد حفر حفرة وقعد فيها، وذلك في زمان الشتاء، فقلت له: ما صيرك هنا؟ قال: شدة البرد، قلت: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ فقال:
أيا رب ما للبرد أصبح كالحا ... وأنت بحالي عالم، لا تعلم
فإن يك يوماً في جهنم مدخلي ... ففي مثل هذا اليوم طابت جهنم
وقيل لابن أبي عتيق: إن المخنثين خصوا، وإن الدلال خصي، فقال: إنا لله، أما والله، لئن فعل ذلك به، لقد كان يحسن:
لمن ربع بذات الجيش، أمسى دارساً خلقا
ثم استقبل القبلة، فلما كبر سلم، ثم التفت إلى أصحابه، فقال: اللهم إن كان ليحسن خفيفه، أما ثقيله، فلا، الله أكبر.
وصحب شيخ من المدينة شباناً في سفينة، ومعهم جارية تغني، فقالوا له: إن معنا جارية تغني، ونحن نجلك، فإن أنت أذنت لنا فعلنا، قال: فأنا أعتزل، وافعلوا ما شئتم، فتنحى، وغنت الجارية:
حتى إذا الصبح بدا ضوؤه ... وغابت الجوزاء والمرزم
قد قل أكلي، وقل شربي ... وصرت من بابة الأمير
فليدع لي، وهو في أمان ... أن أشرب الراح بالكبير