responsiveMenu
فرمت PDF شناسنامه فهرست
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
نام کتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير نویسنده : الرازي، فخر الدين    جلد : 9  صفحه : 461
عَلَى أَسْرَارٍ عَجِيبَةٍ، وَدَقَائِقَ لَطِيفَةٍ، فَإِنَّهُ يَكُونُ اعْتِقَادُهُ فِي عَظَمَةِ الْقُرْآنِ أَكْمَلَ.
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: دَلَائِلُ التَّوْحِيدِ مَحْصُورَةٌ فِي قِسْمَيْنِ: دَلَائِلِ الْآفَاقِ، وَدَلَائِلِ الْأَنْفُسِ وَلَا شَكَّ أَنَّ دَلَائِلَ الْآفَاقِ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: لَخَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ [غَافِرٍ: 57] وَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ لَا جَرَمَ أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْفِكْرِ فِي خَلْقِ السموات وَالْأَرْضِ لِأَنَّ دَلَالَتَهَا أَعْجَبُ وَشَوَاهِدَهَا أَعْظَمُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَلَوْ أَنَّ الْإِنْسَانَ نَظَرَ إِلَى وَرَقَةٍ صَغِيرَةٍ مِنْ أَوْرَاقِ شَجَرَةٍ، رَأَى فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ عِرْقًا وَاحِدًا مُمْتَدًّا فِي وَسَطِهَا، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْ ذَلِكَ الْعِرْقِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ إِلَى الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ يَتَشَعَّبُ مِنْهَا عُرُوقٌ دَقِيقَةٌ.
وَلَا يَزَالُ يَتَشَعَّبُ مِنْ كُلِّ عِرْقٍ عُرُوقٌ أُخَرُ حَتَّى تَصِيرَ فِي الدِّقَّةِ بِحَيْثُ لَا يَرَاهَا الْبَصَرُ، وَعِنْدَ هَذَا يَعْلَمُ أَنَّ لِلْخَالِقِ فِي تَدْبِيرِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ عَلَى هَذِهِ/ الْخِلْقَةِ حِكَمًا بَالِغَةً وَأَسْرَارًا عَجِيبَةً، وَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَوْدَعَ فِيهَا قُوًى جَاذِبَةً لِغِذَائِهَا مِنْ قَعْرِ الْأَرْضِ ثُمَّ إِنَّ ذَلِكَ الْغِذَاءَ يَجْرِي فِي تِلْكَ الْعُرُوقِ حَتَّى يَتَوَزَّعَ عَلَى كُلِّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ جُزْءٌ مِنْ أَجْزَاءِ ذَلِكَ الْغِذَاءِ بِتَقْدِيرِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَلَوْ أَرَادَ الْإِنْسَانُ أَنْ يَعْرِفَ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ وَكَيْفِيَّةَ التَّدْبِيرِ فِي إِيجَادِهَا وَإِيدَاعِ الْقُوَى الْغَاذِيَةِ وَالنَّامِيَةِ فِيهَا لَعَجَزَ عَنْهُ، فَإِذَا عَرَفَ أَنَّ عَقْلَهُ قَاصِرٌ عَنِ الْوُقُوفِ عَلَى كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ الصَّغِيرَةِ، فَحِينَئِذٍ يَقِيسُ تِلْكَ الورقة إلى السموات مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنُّجُومِ، وَإِلَى الْأَرْضِ مَعَ مَا فِيهَا مِنَ الْبِحَارِ وَالْجِبَالِ وَالْمَعَادِنِ وَالنَّبَاتِ وَالْحَيَوَانِ، عَرَفَ أَنَّ تِلْكَ الْوَرَقَةَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى هَذِهِ الْأَشْيَاءِ كَالْعَدَمِ، فَإِذَا عَرَفَ قُصُورَ عَقْلِهِ عَنْ مَعْرِفَةِ ذَلِكَ الشَّيْءِ الْحَقِيرِ عَرَفَ أَنَّهُ لَا سَبِيلَ لَهُ الْبَتَّةَ إِلَى الِاطِّلَاعِ عَلَى عَجَائِبِ حِكْمَةِ اللَّهِ فِي خلق السموات وَالْأَرْضِ، وَإِذَا عَرَفَ بِهَذَا الْبُرْهَانِ النَّيِّرِ قُصُورَ عَقْلِهِ وَفَهْمِهِ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِهَذَا الْمَقَامِ لَمْ يَبْقَ مَعَهُ إِلَّا الِاعْتِرَافُ بِأَنَّ الْخَالِقَ أَجَلُّ وَأَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ وَصْفُ الْوَاصِفِينَ وَمَعَارِفُ الْعَارِفِينَ، بَلْ يُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ مَا خَلَقَهُ فَفِيهِ حِكَمٌ بَالِغَةٌ وَأَسْرَارٌ عَظِيمَةٌ وَإِنْ كَانَ لَا سَبِيلَ لَهُ إِلَى مَعْرِفَتِهَا، فَعِنْدَ هَذَا يَقُولُ: سُبْحَانَكَ! وَالْمُرَادُ مِنْهُ اشْتِغَالُهُ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّهْلِيلِ وَالتَّحْمِيدِ وَالتَّعْظِيمِ، ثُمَّ عِنْدَ ذَلِكَ يَشْتَغِلُ بِالدُّعَاءِ فَيَقُولُ: فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بَيْنَمَا رَجُلٌ مُسْتَلْقٍ عَلَى فِرَاشِهِ إِذْ رَفَعَ رَأْسَهُ فَنَظَرَ إِلَى النُّجُومِ وَإِلَى السَّمَاءِ وَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّ لَكِ رَبًّا وَخَالِقًا، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي فَنَظَرَ اللَّهُ إِلَيْهِ فَغَفَرَ لَهُ»
وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا عِبَادَةَ كَالتَّفَكُّرِ»
وَقِيلَ: الْفِكْرَةُ تُذْهِبُ الْغَفْلَةَ وَتَجْذِبُ لِلْقَلْبِ الْخَشْيَةَ كَمَا يُنْبِتُ الْمَاءُ الزَّرْعَ.
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى فَإِنَّهُ كَانَ يُرْفَعُ لَهُ كُلَّ يَوْمٍ مِثْلُ عَمَلِ أَهْلِ الْأَرْضِ»
قَالُوا: وَكَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ هُوَ التَّفَكُّرَ فِي مَعْرِفَةِ اللَّهِ، لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَقْدِرُ أَنْ يَعْمَلَ بِجَوَارِحِهِ مِثْلَ عَمَلِ أَهْلِ الْأَرْضِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: دَلَّتِ الْآيَةُ عَلَى أَنَّ أَعْلَى مَرَاتِبِ الصِّدِّيقِينَ التَّفَكُّرُ فِي دَلَائِلِ الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ وَأَنَّ التَّقْلِيدَ أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا عِبْرَةَ بِهِ وَلَا الْتِفَاتَ إِلَيْهِ.
وَاعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْ هَؤُلَاءِ الْعِبَادِ الصَّالِحِينَ الْمُوَاظِبِينَ عَلَى الذِّكْرِ وَالْفِكْرِ أَنَّهُمْ ذَكَرُوا خَمْسَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الدُّعَاءِ.
النَّوْعُ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: رَبَّنا مَا خَلَقْتَ هَذَا باطِلًا سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ وَفِيهِ وَجْهَانِ، قَالَ الْوَاحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا، وَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : إِنَّهُ فِي مَحَالِّ الْحَالِ بِمَعْنَى يَتَفَكَّرُونَ قَائِلِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: هَذَا: فِي قَوْلِهِ: مَا خَلَقْتَ هَذَا كِنَايَةٌ عَنِ الْمَخْلُوقِ، يَعْنِي مَا خَلَقْتَ هَذَا الْمَخْلُوقَ/ الْعَجِيبَ بَاطِلًا، وَفِي كَلِمَةِ هَذَا ضَرْبٌ مِنَ التَّعْظِيمِ كَقَوْلِهِ: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الْإِسْرَاءِ: 9] .

نام کتاب : تفسير الرازي = مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير نویسنده : الرازي، فخر الدين    جلد : 9  صفحه : 461
   ««صفحه‌اول    «صفحه‌قبلی
   جلد :
صفحه‌بعدی»    صفحه‌آخر»»   
   ««اول    «قبلی
   جلد :
بعدی»    آخر»»   
فرمت PDF شناسنامه فهرست