نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1321
فالإمام الغزالي رحمه الله يوازن بين الاهتمام في الدُّنيا والآخرة، وأنَّ حبَّ السَّلامة والعافية والكرامة في الدُّنيا لا يتنافى مع حبِّ الله والعمل للآخرة، فهو لا يغفل جانب الدُّنيا على حساب الآخرة، فقد قال: (وليس من شرط حبِّ الله أن لا يحب في العاجل حظَّاً ألبتة، إذ الدعاء الذي أمر به الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه فيه جمع بين الدُّنيا والآخرة، ومن ذلك قولهم: (ربنا آتنا في الدُّنيا حسنة وفي الآخرة حسنة) وقال عيسى عليه السلام في دعائه: (اللهم لا تشمت بي عدوي، ولا تَسُؤْ بي صديقي، ولا تجعل مصيبتي في ديني، ولا تجعل الدُّنيا أكبر همي)، فدفع شماتة الأعداء من حظوظ الدُّنيا، ولم يقل: (ولا تجعل الدُّنيا أصلاً من همي)، بل قال: (لا تجعلها أكبر همي) وقال نبينا صلى الله عليه وسلم في دعائه: (اللهم إني أسألك رحمة أنال بها شرف كرامتك في الدُّنيا والآخرة)، وقال: (اللهم عافني من بلاء الدُّنيا وبلاء الآخرة)، وعلى الجملة فإذا لم يكن حبُّ السَّعادة في الآخرة مناقضاً لحبِّ الله تعالى فحبُّ السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدُّنيا كيف يكون مناقضاً لحبِّ الله، والدُّنيا والآخرة عبارة عن حالتين، إحداهما أقرب من الأخرى، فكيف يُتَصوَّر أنْ يحب الإنسان حظوظ نفسه غداً ولا يحبها اليوم، وإنما يحبها غداً لأنَّ الغد سيصير حالاً راهنة، فالحالة الراهنة لا بدَّ إلا أن تكون مطلوبة أيضاً إلا أنَّ الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها، وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء، وأمروا بالاحتراز عنها، وإلى ما لا يضاد وهي التي لم يمتنعوا منها، كالنكاح الصحيح وأكل الحلال وغير ذلك، فما يضاد حظوظ الآخرة فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه، أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه، كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته، لا بمعنى أنَّ الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ولا يستلذه لو أكله، فإنَّ ذلك محال ولكن على معنى أنَّه يزجره عقله عن الإقدام عليه، وتحصل فيه كراهة الضرر المتعلق به، والمقصود من هذا: أنَّه لو أحب أستاذه لأنَّه يواسيه ويعلمه، أو تلميذه لأنَّه يتعلم منه ويخدمه، وأحدهما حظٌّ عاجل والآخر آجل، لكان في زمرة المتحابِّين في الله، ولكن بشرط واحد، وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلاً، أو تعذَّر عليه تحصيله منه، لنقص حبُّه بسببه فالقدر الذي ينقص بسبب فَقْدِهِ هو لله تعالى، وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله، وليس بمستنكر أن يشتد حبُّك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به، فإن امتنع بعضها نقص حبُّك، وإن زاد زاد الحبُّ، فليس حبُّك الذهب كحبِّك للفضة إذا تساوى مقدارهما، لأنَّ الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة، فإذن يزيد الحبُّ بزيادة الغرض، ولا يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية، فهو داخل في جملة الحبِّ لله وحده وهو أنَّ كلَّ حبٍّ لولا الإيمان بالله واليوم الآخر لم يُتَصَوَّر وجوده فهو حبٌّ في الله).
نعم في الكتاب دعوة إلى الزُّهد الذي قد يكون فيه مبالغة في الامتناع عن متاع الدُّنيا مثل قوله رحمه الله: (وقد اشتدَّ خوف السلف من تناول لذيذ الأطعمة وتمرين النفس عليها، ورأوا أنَّ ذلك علامة الشقاوة، ورأوا منع الله تعالى منه غاية السَّعادة، حتى روي أنَّ وهب بن منبه قال: التقى ملكان في السماء الرابعة فقال أحدهما للآخر: من أين؟ قال: أُمِرْتُ بسوق حوت من البحر اشتهاه فلان اليهودي لعنه الله، وقال الآخر: أُمِرْتُ بإهراق زيت اشتهاه فلان العابد، فهذا تنبيه على أنَّ تيسير أسباب الشهوات ليس من علامات الخير، ولهذا امتنع عمر رضي الله عنه عن شربة ماء بارد بعسل، وقال: اعزلوا عني حسابها، فلا عبادة لله تعالى أعظم من مخالفة النفس في الشهوات بالشهوات وترك اللذات).
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1321