نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1107
وبعد؛ فإنّ من السذاجة بمكان أن نظنّ أنّ العمالة لا تكون إلاّ بصورتها البدائيّة الفجّة، بأن يقبض العميل ثمناً مادّيّاً من عدوّ الأمّة، الذي يتربّص بها الدوائر، وإنّما العمالة في حقيقتها أوسع من ذلك وأكبر، وهي تمرّ في كثير من الأحيان بسلسلة معقّدة من المعادلات النفسيّة الخفيّة، وأساليب المكر والدهاء، التي تحاك في الخفاء، وحقيقتها التي لا تقبل الجدل والمماراة: أن يحقّق الإنسان لعدوّه مصالحه وأهدافه، على حساب مصالح الأمّة وأهدافها، وأن يلتقي مع أهداف عدوّه في حزء من الطريق: ربعه، أو نصفه، أو ثلاثة أرباعه .. فيكون عوناً للعدوّ في تحقيق مصالحه، بينما هو عثرة في طريق مصالح أمّته العليا، وعقبة في طريق نهضتها، وانطلاقتها الحضاريّة المأمولة ..
بقي علينا استكمالاً للرؤية الموضوعيّة أن نشير إلى ثلاث صور من العمالة الظاهرة، وليست منها في الحقيقة:
الصورة الأولى: وهي أن يلتقي سلوك بعض أبناء الأمّة ـ وهو ممّن لا يشكّ في صدق انتمائه وولائه لأمّته وغيرته عليها ـ أن يلتقي سلوكه عرضاً مع هدف من أهداف أعدائها، أو يسلك مسلكاً يظنّه من قبيل المداراة المشروعة للأعداء، وهو من المداهنة المذمومة.
فما يقع به بعض الناس حتّى من الإسلاميّين من خلط وتلبيس بين المداراة لمخالفيهم، التي لا يمنع منها دين الله تعالى، بل قد يُرغّب بها، ويحبّذها في بعض المواقف، وبين المداهنة، التي تقوم على الإقرار لهم على أفعالهم، والرضا بها، وتمييع المفاهيم، وتلبيس المبادئ والحقائق وليّها، وهو ممّا يصادف هوى في قلوب الأعداء، وقبولاً وترحيباً، ويدخل في قول الله U : (وَدُّوا لو تُدهِنُ فَيُدهِنُون) من سورة القلم.
ولا يخفى على متابع لحالة الحراك الاجتماعيّ للأمّة أنّنا ارتهاناً لواقع الضعف، نعيش في زمن التنازلات والاسترضاءات، التي لا تقف عند حدّ، حتّى من بعض المسلمين المنتسبين للعلم والدعوة، بدوافع شتّى، وتبريرات مختلفة، وعدوّنا لا يرضى منّا بالقليل، ويقول لنا بلسان حاله: هل من مزيد.؟ هل من مزيد.؟ ويقول لنا كما في المثل: " لو خرجتَ من جلدك لما عرفتُك"، والله تعالى يقول لنا من قبل ومن بعد: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120)) من سورة البقرة. وفي ذلك بيان قاطع لمن كان له قلب، وذكرى واعظة، لمن ألقى السمع وهو شهيد ..
والصورة الثانية: أن يتمكّن بعض أعداء الأمّة من اختراق بعض أبنائها، وتجنيدهم من حيث لا يشعرون لتنفيذ أهدافهم ومخطّطاتهم، وأكثر هؤلاء إنّما أُتُوا من قبل قلّة فقههم بدين الله، وإعراضهم عن سؤال أهل العلم والدين، فلعبت بهم الأهواء، وضلّت بهم الأفهام عن سبيل الحقّ والهدى ..
وهذه الصورة خطيرة إلى أبعد الحدود، ويتجلّى خطرها في صعوبة إثباتها، وتعقيد الأساليب المتّخذة فيها والتوائها وأحسب أنّها لم تنل حظّها لدينا من تسليط الضوء والمعالجة الجادّة.
والصورة الثالثة: أن يخدع بعض أبناء المسلمين بشعارات الوطنيّة أو القوميّة، ويغروا بمعاداة إخوانهم من أبناء أوطانهم، وممالأة الظالمين على البطش بهم، والتنكيل بهم، والعدوان عليهم .. وكثير من هؤلاء عندما تحرّرت عقولهم من التبعيّة العمياء، وتفتّحت بصائرهم على الحقائق الساطعة، والأدلّة الدامغة، آبوا إلى الحقّ، وعزفوا عن السير في ركاب الباطل .. وتبيّن أنّهم لم تكن خصومتهم نتيجة بيع ضمائر، ونخاسة فكريّة، أو خيانة وطنيّة.
وبعد؛ فإنّ على من يدّعي الوطنيّة، ويلوّح بها في كلّ مناسبة، ويبرّر بها مواقفه الإقصائيّة والعدوانيّة على أبناء وطنه، وشركائه في تاريخه وترابه أن يعلم أنّ الضمانة الكبرى والبيّنة الظاهرة القاطعة، للتسليم بها، والاطمئنان إلى صدق مدّعيها ألاّ تخرج تلك الوطنيّة المدّعاة عن شيء من هوّيّة الأمّة وانتمائها , وألاّ تكون أداة هدم في كيان الوطن، ومعول تخريب لبنيانه، وتمزيق لنسيجه، وإفساد لروابط أبنائه.
نسأل الله جلّ وعلا أن يرينا الحقّ حقّاً، ويرزقنا اتّباعه، ويرينا الباطلباطلاً، ويرزقنا اجتنابه، وأن يجمع كلمة الأمّة على حبّ الحقّ ونصرته والجهاد في سبيله. والحمد لله ربّ العالمين أوّلاً وآخراً.
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1107