فتنبهوا - إخواني - لهذه المسألة؛ فإنها مسألة جد خطيرة! وإنها مسألة تحتاج من طلاب العلم إلى الروية والتفكر والتدبر والتأمل قبل أن تقول ما تقول؛ تأمل ما تريد قوله، وتأمل ما قد يترتب عليه من فساد ربما يوقعك في أوحال خطيرة لا تستطيع الخروج منها، أو تحدث فتنة بين الناس، أو توقع الناس في فتن وتغرقهم في مصادمات بغير دليل.
لا يفهم أحد - هنا - أن طالب العلم لا يبلِّغ ما سمع من الحق، أو أنه لا يدعو إلى الله عز وجل. لا، هذا لا يعنيه أحد، ولا نعنيه، ولا يقول به أحد، وإنما نعني: إن على طالب العلم أن يتثبت مما يريد قوله، ومما يريد أن يُصدره قبل أن يلقيه وأن ينقله نقلا، (إذا رَويْتَ؛ فقمِّش، وإذا حدَّثتَ؛ ففتِّش) - كما يقول بعض أهل العلم -، يعني ربما تروي الكثير وتسمع الكثير، لكن عندما تريد أن تقولَ شيئًا؛ تأكد مما تقول، وتأمل ما قد يترتب عليه مِن وجود مصالح أو درءِ مفاسد، تأكد من هذا؛ حتى تلقى الله عز وجل وأنت ذو قلب أبيض كالصفا، لا يضره شيء.
فأوصيكم ونفسي - أيها الإخوة - بتقوى الله -سُبحانهُ وتَعالَى- في السر والعلن، والمنشَط والمكره، والعناية بطلب العلم، والبعد عن بُنيَّات الطريق.
واسمع حديث رسول الله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-، الذي يرويه أبو هريرة -رضيَ اللهُ عنهُ- عن النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- قال: " إن الله يرضى لكم ثلاثًا، ويسخط لكم ثلاثًا: يرضى لكم: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا ولا تفرَّقوا، وأن تناصحوا مَن ولّاه الله أمركم. ويسخط لكم ثلاثًا: قيل وقال، وكثرة السؤال، وإضاعة المال ". والشاهد: " قيل وقال"؛ لأن كثرة الأقوال؛ قد تؤدي بالإنسان للبلبلة والحيرة، تجعله في حيرة من أمره - والعياذ بالله -، وتجعله في قلق وفي عدم طمانينة.
انظروا إلى أهل الكلام، سمِّي كلامًا؛ لكثرته وقلة بركته، الكلام الذي هو علم الإيش؟ علم المنطق؛ كثير، مقدمات تنبني عليها نتائج، لكن البركة قليلة، بل غالبًا ليس فيه بركة وليس فيه خير.
يقول ((الرازي)) [1] عندما وصل إلى قناعة بترك علم الكلام والرجوع إلى عقائد أهل نيسابور أو إلى عقائد العجائز، إلى الفطرة، يقول (الرازي) بعد أن يئس من علم الكلام وأغرق فيه، ولعله رجع - إن شاء الله -، يقول:
نهاية إقدام العقول عقال .. وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا .. وأكثر دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا .. سوى أن جمعنا فيه قيل قالوا
ثم قال: لقد خضت في علم الكلام، وخضت في البحر الخضم، وقرأت الذي نهوني عنه، وها أنا اليوم إن لم يتداركني الله برحمته؛ فالويل لفلان. ثم قال إنه يعود إلى عقيدة السلف، وذكر بعض الآيات، ثم قال: ومَن جرب مثل تجربتي؛ عرف مثل معرفتي.
(...) [2]، كل شيء زاد عن حده؛ انقلب إلى ضده، حتى الخوض في مسائل العلم؛ إذا تحولت إلى جدل وإلى خصومات وإلى مراء لا يقصد به وجه الله؛ فيتحول إلى سوء؛ ولذلك يقول النبي -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: " أنا كفيل ببيت في (ربض) [3] الجنة لمن ترك المراء ولو كان محقا "، فما بالك إذا كان مبطلا، وإذا كان يتطفل على العلم، وإذا كان يتقول على العلماء وعلى طلاب العلم، وإذا كان يلزمهم بما لا يلزمهم، وإذا كان يَسأل لغرض في نفسه؛ ليبني عليه أمورًا فاسدة تضر بالإسلام والمسلمين؟!!
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله جل وعلا والعلم. فانتبهوا إلى هذا، واجتهدوا في طلب العلم وإياكم وبنيات لطريق، وإياكم والخوض الذي لا طائل تحته، وإياكم أن تنقلوا كلاما إلا إذا تأكدتم من صحته، وأيضا مما يترتب على نقله من حق أو باطل.
((انتهى التفريغ والحمد لله)).
* فرغتُها قبل سنوات، من مادة صوتية للشيخ صالح السحيمي حفظه الله في إذاعة سحاب، مدتُها: نصف ساعة تقريبًا. [1] الشيخ -حفظهُ اللهُ- ذكر بأنه " الشهرستاني " ثم استدرك؛ فأثبتُّ الصواب. [2] جملة لم أفهم بعض ألفاظها. [3] قال الشيخ -حفظهُ اللهُ-: " أعلى الجنة "، ثم نبِّه على ذلك؛ فأثبتُّ الصواب، ولم أنقل التنبيه.
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 10 صفحه : 1088