نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 1 صفحه : 367
فانظر، يا رعاك الله، إلى هذه المفارقة: كيف أن الشعر الجاهلى، ومثله فى ذلك الشعر الإسلامى والأموى وربما بعض العباسى بناء على نظرية الدكتور أنيس، إن تركتَه على وضعه الأصلى، أى إن اتبعت الحق من وجهة نظر الدكتور، لم تجد بين يديك إلا هذه الفقاقيع السخيفة البائرة التى لا تنتمى إلى الشعر ولا تساوى شيئا فى ميدان الفن والإبداع والموسيقى، أما إن اتبعت الباطل حسبما تهرف نظرية الأستاذ الدكتور، وأجريت هذا الشعر على النظام الإعرابى (المخترع على حد زعمه) تحصل لك فى الحال ذلك الإبداع الفاتن. فيا لها من مصادفة عجيبة عجب المنهج العلمى الذى استخدمه الأستاذ الدكتور فى بحثه العبقرى والذى لا يخر الماء: أن تستقيم أمور الشعر العربى القديم على الباطل، وتلتوى مع الحق. ومع هذا يصر إبراهيم أنيس على أن يركب دماغه ويزعم أن العربية لم تكن تعرف الإعراب طوال عمرها إلا بعد الإسلام بقرن أو يزيد. عجايب!
وهكذا يتبين لنا أنْ لو كانت العربية ساكنةَ أواخر الكلمات دائما فلا تتحرك تلك الأواخر إلا عند التقاء ساكنين لما كان الشعر الجاهلى والإسلامى والأموى وشطرا غير قليل من الشعر العباسى موززنا، وأن تلك الأشعار، وياللعجب، قد اكتسبت بهذا التغيير الطارئ العجيب جمالا وانتظمت موسيقاه انتظاما لم تكن تعرفه من قبل؟ فأية مصادفة حسناء هذه؟ ثم جاء الخليل بن أحمد فتم الحسن على يديه وبلغ الغاية، إذ استطاع أن يستخرج من هذا النظام الإيقاعى القائم على المصادفة علمًا للعروض والقافية مستقيما غاية الاستقامة، دقيقا منتهى الدقة. على أن الأمر لا يقف هنا، بل إن الشعر الجاهلى، بدون الإعراب، ليستغلق فى كثير من الأحيان على قارئيه ومستمعيه بسبب ما فيه من تقديم وتأخير للكلمات عن مواضعها أو الإتيان بجمل وعبارات اعتراضية، مما لا يزيل غموضَه ولَبْسَه إلا الإعراب، الذى لم يكن موجودا فى ذلك الحين طبقا لفكرة الأستاذ الدكتور المتهايلة.
ومعنى ذلك ثالثا أن الأمة كلها قد تواطأت على الكذب، إذ زعم الزاعمون من علمائها النحويين أن العرب كانوا يعرفون الإعراب منذ وقت طويل قبل الإسلام، ووافقتهم الأمة كلها على هذا: وافقتهم بالإيجاب فرددت هذه المقولة معهم كذبًا منها ومَيْنًا، أو بالسلب فسكتت على هذه الكذبة البلقاء وتركتها تروج وتسود فلا يعود ثم موضع للفكرة الحقيقية بعد هذا أبدا. أما إذا لم ترد، أيها القارئ، أن تَصِم الأمةَ الإسلاميةَ كلها بالكذب والتواطؤ على الكذب فيمكنك أن تقسمها فريقين: فريق من الكذابين الوقحين، وفريق آخر من البله المعاتيه الذين ابتلعوا طعم تلك الكذبة البلقاء دون أن يفتحوا فمهم بكلمة لأنهم بله معاتيه. ومتى كان البله المعاتيه يفقهون شيئا أو يتنبهون إلى شىء؟
ويقول د. أنيس إنه ببحثه هذا العجيب لا يهدف إلى محوٍ أو تغييرٍ فيما تواضع الناس عليه من قواعد إعرابية، بل يهدف إلى البحث العلمى البحت مستعينا بأحدث الآراء فى علم الأصوات (من أسرار اللغة/ 230). وهو كلام أعجب من نظريته المتهافتة، إذ يشبه أن يأتى إنسان إلى زوج لا يجد فى زوجته ما يريب، بل يعيش معها عيشة هانئة سعيدة، فيعكر عليه صفوه بإثارة ريبته فيها، ويملأ نفسه بالهواجس والقلق ويحيل حياته جحيما مستعرا، ثم يستدير من الناحية الأخرى فيطمئنه بكلمتين لا تقدمان ولا تؤخران قائلا إنه لا يهدف من وراء هذا الذى قاله أن يدفعه إلى تطليق زوجته، حاشا لله، ولا إلى التزوج عليها بأخرى، أعوذ بالله، بل إلى دراسة الأمر دراسة علمية مستعينا بالسيد المفتش الجهبذ هركيول بوارو، الذى يمثل فى عالم كشف الجريمة آخر نسخة من طراز رجال المباحث، ونعم بالله!
ثم إنك بعد ذلك تقلب صفحات البحث من اليمين للشمال، ومن الشمال لليمين بحثا عن المراجع الحديثة المزعومة فلا تجد منها شيئا، بل كل ما تلقاه أينما اتجهت هو الكتب العربية القديمة التى اتهم الأستاذ الدكتور أصحابها أشنع الاتهامات، فلا تملك نفسك من أن تتساءل: ترى لِمَ يعتمد الأستاذ الدكتور على تلك الكتب إذا كان مؤلفوها بهذا السوء الذى نسبهم إليه ووصمهم به؟
¥
نام کتاب : ملتقى أهل اللغة نویسنده : مجموعة من المؤلفين جلد : 1 صفحه : 367